العام المقبل ربما يكون بداية للقضاء المتخصص الذي طالما انتظرناه منذ فترة طويلة، وهو يأتي ضمن مخرجات مشروع الملك عبدالله -حفظه الله- لتطوير القضاء الذي بدأ بإصدار نظام القضاء عام 1428، ثم تلاه إصدار العديد من الأنظمة والتشريعات، وكلنا ندعو الله أن يُثمر ذلك قضاءً متفوقا ومهنيا قريبا. هناك محاكم متخصصة أنشئت من داخل القضاء العام مثل محاكم الأحوال الشخصية والإنهاءات والتنفيذ، وهذه تبدأ أعمالها من جديد وتستند على نفس التعليمات والأنظمة السابقة (باستثناء التنفيذ) حيث كانت تخصصاتها متناثرة بين المكاتب القضائية داخل الجهاز نفسه، فمثل هذه المحاكم لا تحتاج إلى الكثير من العمل التشريعي والتدريب لكون القضاة أنفسهم كانوا يمارسون التخصص نفسه ضمن تخصصات كثيرة أخرى. ولكن ماذا عن الاختصاصات التي لم تكن يوما من ضمن اختصاص القضاء العام، وليس لدى قضاته أي خبرة ومعرفة بتلك الاختصاصات؟ من أهم المحاكم التي سيتم نقلها للقضاء العام قريبا فيما يبدو؛ المحاكم العمالية والمرورية والتجارية، وكل هذه التخصصات قائمة بذاتها في هيئات ولجان شبه قضائية، أو محاكم متكاملة مثل القضاء التجاري الذي كان تابعا لديوان المظالم ولا يزال حتى كتابة هذا المقال. كل هذه التخصصات جديدة تماما على القضاء العام، وتأهيل قضاتها (أو مستشاريها) مختلف كثيرا، فالمحاكم العمالية مثلا؛ تعتمد في الجانب الإجرائي على لائحة مختلفة عن نظام المرافعات الشرعية الذي يعمل عليه القضاء العام، ولدى الهيئات العمالية مبادئ وسوابق (أحكام قضائية سابقة) متراكمة على مدى سنوات طويلة، والتي بها يستقر القضاء العمالي حيث غالبا يلتزم بها، كما إن نظام العمل لم يعتد عليه قضاة القضاء العام ولا يدخل في اختصاصهم نهائيا، ولكن ماذا عن كل تلك الخبرة المتراكمة؟ هل ستنتقل مع نقل الاختصاص ليكون تحت القضاء العام بالرغم من أن آلية عمله لا تعتمد على المبادئ والسوابق ولا تلتزم بها؟ كما أن القضاء العمالي لا يتداخله أي تخصص شرعي بحت، بل هو قضاء يعتمد على القانون (المتوافق مع الشريعة) بشكل كلي، فهل ستكون اشتراطات قضاته نفس اشتراطات قضاة العام بالرغم من أنه قد يكون من بينهم مَن مؤهلُه الوحيد كلية الشريعة؟ هذه التساؤلات أعتقد أنها مهمة وأتمنى أن تتم معالجتها ضمن الآلية التنفيذية لنقل الاختصاص القضائي. ولكن أهم من القضاء العمالي؛ ماذا عن القضاء التجاري الذي يُمثل قطاعا حساسا جدا؟ وهو في حاجة ماسة للاستقرار القضائي أكثر من أي قضاء آخر، حيث إن القضاء التجاري يعتمد أيضا على المبادئ والسوابق أيضا - وإن كان الالتزام أدبيا-، فهل ستتغير آلية عمل القضاء التجاري كليا بعد انتقاله للقضاء العام؟ القضاء التجاري سيكون بعد انتقاله للقضاء العام ملتزما بكل أنظمة وتعليمات القضاء العام ومن بينها نظام المرافعات الشرعية والتعاميم القضائية السائدة فيه، وهي تختلف نوعا ما عن آلية عمل القضاء التجاري حاليا، وأعتقد أن خطوة نقله للقضاء العام ذات حساسية شديدة، وأتمنى ألا تتم إلا بعد تسوية المشاكل القضائية والتشريعية التي قد تنشأ ومعالجتها بدقة تامة، فالقضاء التجاري يحتاج للاستقرار والثبات أكثر من أي قضاء آخر كون القطاع التجاري حساس ويحتاج لمعرفة جميع المخاطر التجارية بدقة، وربما أن أهم معايير تقييم المخاطر والبيئة الاستثمارية في أي بلد؛ هي مساحة القضاء والأنظمة التجارية، ولذلك أتمنى أن يُخصص القضاء التجاري بشيء من الخصوصية فيما يتعلق بالمبادئ والنواحي التشريعية الخاصة به. هذا الأمر يسوقنا لفتح موضوع تأهيل القضاة وآلية اختيارهم، وهو موضوع مهم جدا، فمن الضروري اليوم أن يكون القضاة متخصصين في القضاء نفسه الذي يعين فيه، حتى لو وُضعت خطة يتم استكمالها في سنوات. المعهد العالي للقضاء اليوم لديه خمسة تخصصات جديدة منها التجاري والجزائي والأحوال الشخصية والعمالي والإداري، وكم أتمنى أن يتم تخصيص القضاة على الأقل في مرحلة مبكرة من التأهيل، فكل قاضٍ يعمل في قضاء متخصص يكون تخصصه العلمي في نفس التخصص. نظام القضاء ينص على اشتراط كون القاضي يحمل شهادة البكالوريوس من الشريعة، وللأسف أن خريجي الشريعة يتخرجون وهم لم يدرسوا أساسيات القانون، ولا حتى النظام الأساسي للحكم في حدود علمي، بالرغم من أن أغلب القضاة لديهم اهتماماتهم الخاصة واطلاعهم الشخصي، ولكن أتمنى أن تكون كلية الشريعة مخصصة لتخريج القضاة والمستشارين فقط ويركز فيها على كل ما يخص القضاء والفقه والقانون، فلا غنى لكل قاضٍ عن معرفة قواعد القانون وأقسامه ومقدماته، فالقاضي يتعامل مع الأنظمة والتشريعات النظامية كثيرا وهو يحتاج بشكل أساس للتأهيل القانوني كثيرا، وكم أتمنى الإلزام بماجستير الأنظمة للملازمين القضائيين لما في ذلك من صالح البلد والقضاء. أختم الكلام بأن القضاء المتخصص يُعتبر أهم خطوة إصلاحية في مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء جاءت تطبيقا لنظام القضاء، وهي ستسهم على تركّز الخبرات وتراكمها، مما يساعد على الإسراع في الحكم والبت في القضايا بإذن الله. نقلا عن الوطن السعودية