منذ بزوغ الغرب كقوة اقتصادية وصناعية وعسكرية، ولا سيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، ظهرت مفاهيم كثيرة لتفسير علاقة الشرق بالغرب. ومن أكثر المفاهيم تداولا ما أتى به العلامة إدوارد سعيد، العربي الفلسطيني الأصل والأمريكي الجنسية، في أطروحاته عن الاستشراق. والاستشراق حقل علمي كبير دشنه وطوره العلماء الغربيون من خلال الدراسات التي قاموا بها لتحليل وتمحيص ونقد المجتمعات الشرقية. وأغلب هذا الدراسات لا ترى في الشرق الإسلامي إلا تابعا ذا دور ثانوي ومساهما متواضعا في الحضارة الإنسانية. تخلف الشرق الإسلامي عن اللحاق بركب الحضارة الحديثة جعل كثيرا من المستشرقين ينظرون باستخفاف حتى إلى العقلية الشرقية. أغلب المعرفة التي جمعها الغرب عن الشرق أتت من نظرة فوقية، كون الغرب المسيحي أكبر شأنا وتعقلا وحضارة ومدنية من الشرق المسلم. وأسهم الشرق المسلم من حيث يدري أو لا يدري في إرساء أسس هذه النظرية، وذلك بانبهاره بالحضارة الغربية وتقليده لها دون محاولة جادة منه لتوطين العلم والتكنولوجيا. وإذا علمنا أن أغلبية السياسات الغربية تجاه الشرق كانت تستند إلى خلاصة نظرة الاستشراق هذه، عرفنا مدى الأذى الذي وقع على الدول العربية والإسلامية من جراء تطبيق هذه السياسات. إدوارد سعيد فكك هذه النظرة وبرهن على أن الدراسات الاستشراقية والسياسات الغربية التي استندت إليها لم تنصف الشرق المسلم؛ لأنها تخفق في فهم العمق الحضاري والثقافي والديني للشرق. واليوم لا يمكن الحديث عن الاستشراق وعلاقة الغرب مع الشرق دون الإشارة إلى كتابات العالم العربي هذا. هناك مئات الكتب وأطروحات الدكتوراه وربما آلاف الأبحاث تأخذ كتابات إدوارد سعيد نبراسا، ولا يمكن لباحث أن يلم بها جميعا، ولكن ما شدني كانت دراسة منهجية لنظرية الاستشراق الغربية؛ مفادها أنها ولّدت عقدة ''الدونية'' لدى الشرقيين عند النظر إلى أنفسهم مقارنة بالغرب، وعقدة ''الفوقية'' لدى الغربيين عند النظر إلى أنفسهم ومقارنتها بالشرقيين. وصار لأصحاب العيون الزرقاء (الغربيون) سطوة لدى الشرقيين من العرب والمسلمين وشاع بينهم مصطلح ''عقدة الخواجة''؛ ومن معانيه أن الشخص صاحب العينين الزرقاوين يساوي عشرة أو ربما أكثر من شخص لا تحمل عيناه اللون نفسه وإن كان عربي اللسان ومسلم الديانة. ورغم أن السطوة هذه بدأت في الانحسار الشديد في الصين واليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا وأخيرا في الهند، إلا أن تأثيرها لا يزال قائما، لا بل هو على أشده في الدول العربية، حيث تنظر أغلبية الناس والنظم إلى أصحاب العيون الزرقاء وكأنهم يعرفون كل شيء في الاقتصاد والسياسة والعلم والتكنولوجيا والعسكر وغيرها من مناحي الحياة، وأن العربي لا يعرف شيئا وأن دوره لا يخرج عن نطاق كونه متلقيا لما يقوله الغرب. وهذا الموقف اليوم لا ينطلي حتى على الغربيين أنفسهم. العالم الغربي اليوم في أزمة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية كبيرة جعلت كثيرا من علمائه وقادته يعترفون بأنهم خدعوا أنفسهم بالقول إنهم يعرفون كل شيء، حيث ظهر اليوم أنهم لا يعرفون شيئا. الاقتصادات الغربية في أزمة شديدة والعملة الأوروبية الموحدة - اليورو - تترنح وفي طريقها إلى الانهيار، وبدأت الدول الغربية الأوروبية وغيرها أفرادا ومجموعات تضع الخطط لما يصفه البعض بالكارثة القادمة. بالطبع سيكون هناك طعام على المائدة وسيذهب التلاميذ إلى المدارس وستعمل المستشفيات والجامعات، ولكن الغرب بدأ يعي أنه أخذ أكثر من نصيبه من الخيرات المحدودة لهذه الأرض، وعليه الآن أن يقبل أن تشاركه دول وشعوب أخرى بودها أن تأكل اللحم والفواكه وتترفه وتصطاف مثله. المشكلة أن بعض هذه الدول تعداد سكانها أضعاف سكان الدول الغربية. عقدة الخواجة والعيون الزرقاء في طريقها إلى الزوال، وأرى أن على العرب أن يعيدوا النظر فيها وأن يستثمروا طاقاتهم في بلدانهم بدلا من الملاعب الرياضية في الغرب وأن يمنحوا أنفسهم قيمة تساوي ما أغدقوه ويغدقونه على الغربيين. نقلا عن الاقتصادية