لا يبدو أن هناك كبير أمل في استمرار حياة الرخاء في الكثير من بلدان أوروبا، وهو الأمر الذي انطبع بقوة في ذاكرة العقود الماضية. إذ يبدو أن زمن التقشف هو المهيمن على مشهد السنين القادمة. حيث إن الشكوك تحوم حول مقدرة بعض الدول الأوروبية على الإيفاء بالتزاماتها المالية فيما يتعلق بالديون الخارجية، وهو الأمر الذي سيؤثر في حجم المساعدات المالية التي تقدمها لشعوبها. أرجع الكثير من المسؤولين الأوروبيين أسباب تعثر تلك الدول إلى إخفاقها في توفير الأموال اللازمة لتغطية ميزانياتها بشكل كامل، لأنها امتنعت عن فرض الضرائب الكافية التي تمكنها من الحصول على الأموال. قدمت القارة الأوروبية العجوز نفسها على أساس أنها دولة تقدم الرفاهية لمواطنيها، وهذا هو الأسلوب المعتمد لعقود من الزمن، لأن أوروبا على مدى نصف قرن من الحرب الباردة حظيت بحماية الولاياتالمتحدة، ما شجعها على تخفيض مصروفاتها في شؤون الدفاع ورفع معدلات الإنفاق من أجل زيادة رفاهية مواطنيها. وتبنت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها نظم الرعاية الصحية الشاملة، واختارت لعمالها أسبوع عمل أقصر، وسقفاً أعلى للحد الأدنى للأجور، وأماناً وظيفياً أكبر، وإحالات أبكر على التقاعد، ورواتب تقاعدية سخية. هذه الميزات مجتمعة تتطابق مع مصطلح دولة الرفاه الذي لا يفضله الأمريكيون كثيرا، ويستعيضون عنه بمصطلح التزامات. لكن العديد من الدول تتجنب المساس ببرامج الرفاهية حتى لا تشتعل شوارعها بالغضب والمظاهرات والإضرابات، لذلك تختار أحلى الأمرين، أي دفع مستويات فائدة أعلى على السندات التي تصدرها. وبتحليل الشأن اليوناني يتبين أن أزمة اليونان أزمة أوروبية بدأت منذ إطلاق عملة اليورو. كان الهدف السياسي من توحيد العملة خلق كيان قوي مشترك عبر تذويب الهويات المختلفة في هوية قارية مشتركة، بينما الهدف الاقتصادي من الأمر هو المساعدة على تنشيط دورة النمو الاقتصادي في أوروبا. جرى الاعتقاد أن ما ينشط الاقتصاد هو في العمل على تقليص التكاليف في عملية التحويلات الدائمة بين العملات الوطنية لكل دولة من الدول المعنية، وقصر التعامل على عملة واحدة. لكن سرعان ما تبين أن السبب الرئيس للمشكلة لا يتمثل في اليورو، بل في جملة المنافع والمزايا باهظة التكلفة التي منها إعانة البطالة والشيخوخة والتأمين الصحي، التي تلتزم بها الدول. كما أن جزءا من المشكلة يمكن تحميله في رقبة سوء تشخيص الحالة، حيث إن تنوع العملات لم يكن يوما عقبة أمام النمو الاقتصادي. إنما الذي شكل عقبة هي الضرائب المرتفعة والدعم السخي للكثير من السلع والخدمات. أما على مستوى الوحدة السياسية فإن اليورو هو من يفرق الأوروبيين، فاليونانيون يرفضون الشروط المجحفة من قبل الدول التي تساعدهم بالحزم الإنقاذية وأهمها ألمانيا التي تتذمر من التكلفة الباهظة التي سيتحملها مواطنوها من أجل إنقاذ اليونانيين. إن القارة العجوز تمتلك القليل من الخيارات للمناورة على مشكلاتها، فكل إجراء تتخذه بشأن ميزانيتها يهدد بإبطاء حركة النمو الاقتصادي، وبالتالي التسبب في ركود. لذلك تلجأ إلى الاستدانة أو إصدار سندات لتقابل احتياجاتها، لكنها ستصل إلى مرحلة لن تعود فيه قادرة على خدمة ديونها. كما أن متاعب الدول المالية تجعل المقرضين الكبار يمتنعون عن الإقراض إلا بمعدلات فائدة عالية. لكن إلى متى سيعمل اليونانيون ساعات أطول، وينعمون بالتقاعد متأخرين، ويعيشون على رواتب تقاعدية أصغر حتى يحصل حاملو السندات اليونانية على دفعات الفائدة في وقتها؟ سؤال حاول سكان أثينا انتزاع الإجابة عنه عبر تظاهراتهم الشعبية ولم يوفقوا حتى الآن في الحصول على جواب صريح بشأنه. نقلا ع الاقتصادية