كلما تجافتِ الأحلامُ عن مضاجعها تضاءلت النسبيّة، وتعرّى وجعُ المسافات، وكلما تخلّت الدائرة عن قطرها استقرت في الأرحام نواةُ الاحتمالات، وبقدْرِ ما تعاقبتْ على الأرض الفصول وما تقاسمتْ من وقتنا أقانيمُ الليل والنهار بقدر ما اعترى الكونَ الضجر، وأرهقتْ طموحَ الناس شتّى الفِكَر، وُلدتَ في غيهبٍ حالكة، ورصفتَ ما بين الصخور والوهاد درباً وجسوراً وضّاءة سالكة، كان جسدُ الغابةِ ذابلاً وروحُها يعتريها الشحوبُ في كهوفِ العتمة، وآمالها تسبح في صحراء الكوابيس، حينَ كان ما حولك يحبو، كنتَ ترتجل خُطواتك الأولى باتجاه شمس الفرح ونهارات الصحو وأطواق النجاة، بعد أن كانت الجهاتُ تائهة عنك اجتمعتْ عليك وفتحتْ أذرعها لتحتضن دفئك هروباً من الزمهرير، كنتَ أباً عطوفاً مشغولاً بتأمين الضروري، وأُمّاً رؤوماً تفتل ضفائرها مهداً لصغارها ونحيلُ صدرها حساء، لم تُراوغ الأرضُ أهدافكَ المُضيئة، ولم تقف السماءُ مع الدسائس الحاقدة، كانت الجزيرةُ العربية خارطةَ إثم وكنتَ نكهة مغفرة، كانت قدماك تغرس ندى الأمل في جفاف الفيافي، وكفاك تُروّض الأعين بمصابيح الهداية، وفؤادك يحاور ليل الشك بلغة صبح اليقين، وشفتاك تغردان بابتسامات الصفح على أشجار الضغينة، وأناملك تُعطّر القطيعة بشذى الوصل ومنكباك مزينين بعباءة الحكمة، كانتْ أحلامنا شفيفة ومؤثثة بالفنتازيا لأعيادك المُرتقبة، وكان وعينا مؤهلاً لحمايتك من مخالب الأعداء الحديدية، نراكَ شجرةَ أعمارنا وإن صادر بعضُ مشاغبيك تين طفولتنا، ونثقُ بك ثقة الشفاه الصائمة بأنفاس الماء، كُنّا غيوماً مبعثّرة في كفّ السماء وكنتَ قافلةً لاهيةً عن صدق الحُداء، حتى مددنا الأكف لمصافحتك فكنت بلسماً لامس شغاف الرمل، أنتَ منّا ونحن بك، كنا نخافك فاستوعبناك وكنت ضيّقاً فاتسعت بنا، بين ألْسُننا جدلية الأسبقية وحوارات الأحقيّة إلا أن قلبك حفيّاً بنزقنا وقلقنا وخوفنا لا منك بل عليك، كنتَ عزيمةَ فردٍ وكُنّا شرف عهد ووفاء الجمع، لا مزايدةً في العشق، والعشق ليس ادّعاءً ولا ترانيم ولا لحناً وموسقة بل ذوبٌ في جمالية المعشوق، وبكاءٌ على زمن مسروق، وبحثٌ عن ظل باردٍ لفؤادٍ محروق، كانت لنا أهواءٌ ومذاهب وكنّا مللاً ونِحَلاً فاجتمعت أفئدتنا على تقديسك وإجلالك، أنتَ أكبرُ من استيعابك في فكرة أو اختزالك في أيديولوجيا أو تنميطك بحيّز جغرافي أنت الكل للكل ولن يسعى لأسرك في ردائه إلا مُعتل، أنت واحدٌ ونحن تعدد في الفكرة وتوحّدٌ في هواك، ومع أول الميزان من كل عام نحبسُ نبض الوقتِ ونستعينُ بقواميس العشق لنرتّل على مسمعك هزيعاً من شوق الانتماء ونطبعُ على جبينك قُبْلةَ الولاء، لا ريب أن لكل رحم ولادة، وأن لكل ولادة مخاضا، ولكل مخاضٍ مسرحاً مخنوقاً بالحشرجات، كان أجدادنا آن ولادتك قلقين ألا تتحقق طموحاتُ الغريق ونبؤة المنقذ، كانوا مرتبكين أمام فصاحة المسالك وتلعثم الخُطى حتى منحتَ أقدامهم رصانة المسير وألغيتَ ديباجة الحدس والتخمين، إنّهم مُورّثونا التعلق فيك والهيام بك والغضب منك والحنين إليك والتعويل عليك، جمعوا «طاء» طيبتهم إلى «واو» عطفك والتحقا ب«نون» الناس فكنتَ «وطنْ» خضّر الكون في أعيننا وبث السكينة في خوفنا ولن نقبل كسر غصن من شجرتك الوارفة الظل في عيدك الثالث والثمانين بل أُهديك بعضي هنا فأقولُ «سئِمتْ مراراتِ السرابِ قوافلي، وسَمَتْ إلى بذخِ الغيومِ قناتي، وتَبعْتُ سهواً قِبْلةً مشئومةً، فأبتْ عصافيرُ السماء صلاتي، فعلمتُ أنكِ مرفئي وسفينتي، ومُحيطُ إغراقي وطوقُ نجاتي».