أكتب هذا المقال وضربة غربية لقوات الأسد تلوح في الأفق، لكنها لم تبدأ بعد. سأكتب متأملاً في الطبيعة الغريبة لهذه الضربة. لفت نظري فيها الرسائل المكثفة التي حرصت أمريكا على بثّها بشأن الضربة. إنها رسائل تطمينية للأسد وحلفائه داخلياً و إقليميا ودولياً. بصفتي أنتمي لهذه المنطقة، فقد عاصرت ضربات أمريكية كثيرة لدول في المنطقة. ضربات للعراق على مدى الإثني عشر عاماً الفاصلة بين حرب تحرير الكويت سنة 1991 واحتلال العراق سنة 2003. وضرب أمريكا لليبيا-القذافي عهد ريغان ثم ضرب الناتو له إبان الانتفاضة الشعبية الأخيرة ضد القذافي. وضرب السودان وأفغانستان في عزّ الجدل المتولد عن تسليم الفتاة اللعوب مونيكا لوينسكي فستانها الأزرق (الذي يحمل دلائل إدانات كلينتون) للمحقق كينيث ستار. و ضرب أفغانستان لإخراج القاعدة منه سنة 2002. وأخيراً ضربات الطائرات دون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن. أرأيتم، إننا نعيش في زمن ومكان إمطار القذائف الأمريكية من البر والجو. لذا، يحسن بنا أن نطور فناً تصنيفياً لهذه الضربات عوضاً عن أن نعدها جميعاً ضربات والسلام. لقد جمعنا تراثاً من هذه الضربات يسمح لنا بتصنيفها والتفريق بينها بناء على الحجم والسبب والأهداف. ما أكتبه اليوم هو «مقدمة» لتصنيف الضربة المقبلة على جيش بشار. لماذا الضربة؟ الجواب البسيط، لأن أوباما سبق أن قال إن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر وبشار متهم باستخدامها، أي بتجاوز الأحمر. لذا، لابد من ترجمة الأقوال إلى أفعال وإلا تضررت هيبة أمريكا ومصداقيتها بشكل كبير. لكن ترجمة الأقوال إلى أفعال ليست بهذه البساطة، فالوضع السوري معقد حقاً. إنه أكثر تعقيداً عما كان عليه قبل سنتين، عند اندلاع الثورة ضد نظام بشار. فهناك قوى دخلت سوريا لتقاتل إلى جانب النظام أو ضده. أضحت سوريا مجال قتال طائفي يشارك فيه أناس ليسوا سوريين على أساس طائفي. فحزب الله اعترف بمشاركة قواته في القتال إلى جانب قوات الأسد. وهناك ادعاءات بمشاركة مقاتلين عراقيين وإيرانيين شيعة إلى جانب قوات بشار أيضاً. يقابل ذلك، مشاركة مقاتلين أجانب قادمين من بلاد مختلفة ومنظمات جهادية في القتال ضد قوات بشار. لم يعد الوضع في سوريا ثورة شعب على نظام قمعي جائر أو حتى حرب أهلية، لقد استحال مركز استقطاب و صراع طائفي، إقليمي، و دولي أيضاً. دخول المقاتلين الأجانب، لمساعدة كل طرف، غير في المعادلة كثيراً، وبالتالي غير في موقف الغرب، وعلى رأسهم أمريكا مما يجري. فأولا، هناك جبهة النصرة، أحد تشكيلات القاعدة، العدو رقم واحد لأمريكا والغرب تقاتل ضد بشار الآن في سوريا. هذا التطور، الذي لم يكن موجودا قبل سنتين، يجعل الغرب الذي طالب برحيل الأسد يهدئ من اندفاعه خلف الثورة السورية. إذ من غير المعقول تجاهل أن العدو رقم واحد لأمريكا موجود في سوريا يقاتل ضد بشار. هذا يثير سؤالاً لم يكن موجوداً قبل عامين. ذاك هو، هل سيكون لجبهة النصرة ومن ورائها القاعدة قوة ونفوذ في سوريا ما بعد الأسد؟ وهل سيتكرر في سوريا ما حصل في العراق بعد الاحتلال، من حيث تموضع القاعدة في بعض مناطق السنة العرب ثم إفشالها، أي القاعدة، النظام المتولد عما بعد الاحتلال؟ ثم هل ستدخل المناطق التي ستسيطر عليها جبهة النصرة في صراعات لا تنتهي، صراعات داخلية على السلطة والنفوذ وصراعات مع الدولة، كما هو الشأن في العراق؟ فبشار هذا يحكم دولة تتموضع في مكان استراتيجي خطير. إنها، أي سوريا، مطلة على إسرائيل التي يكوّن أمنها و حمايتها شغل أمريكا الشاغل في منطقتنا، وتتوسط الشرق الأوسط مشتركة في حدود مباشرة مع ست من دوله و مطلة على المتوسط. إن الفوضى فيها أو انهيار الدولة وتحولها ل «دولة فاشلة» يكون شيئا باهظ الثمن وغير متصور. وهذا بعد لم يكن موجودا قبل سنتين. البعد الثاني خاص بما أظهرته الأيام من قوة في صلب النظام السوري لم تتأت لا لصدام من قبله، الذي تم تغيير نظامه بالغزو والاحتلال، ولا للأنظمة العربية التي أمكن تغييرها بعد ثورات شعوبها، في تونس ومصر و ليبيا و(جزئياً) اليمن. فبعكس كل النماذج السابقة، أنموذج البعث/العلوي/ السوري نسج خلال وجوده في السلطة على مدى خمسين عاماً تحالفات إقليمية تجعل من تدميره مغامرة مجهولة العواقب في منطقة تقوم على توازنات هشة. فبعكس البعث العراقي، مزج البعث السوري بين دعوى حداثية، هي القومية العربية، وأخرى تقليدية هي الطائفية الشيعية في تحالفاته الإقليمية. لقد حارب صدام، السني العربي، وإيران الشيعية على مدى 8 سنوات ثم انقض على جارته السنية العربية الصغيرة، أي الكويت، ضاماً إياها لسلطانه ومطلقاً رسائل تهديد وجودي للجارة السنية الكبرى، السعودية. لم تكن الطائفية تشكل محوراً للسياسة الخارجية لديه. لذا، كانت الدول السنية العربية أحد مكونات التحالف الغربي ضده منذ احتلاله الكويت. في الحالة السورية، يحضر المتغير الطائفي في السياسة الخارجية بشكل أوضح، الذي عبر عن نفسه بوقوف إيران القوي مع بشار أو بوفود مقاتلين أجانب إلى سوريا ليقاتلوا ضد بشار أو معه على أساس طائفي. يفسد هذا التعميم، السنوات التي دعم فيها بشار إرهاب القاعدة في العراق، رغم أن هذا الإرهاب مهندس على أساس طائفي بحت باستهدافه شيعة العراق. خلاصة القول في هذا البعد أن التحالفات الاقليمية لنظام بشار، في إيران و لبنان تحديداً، تمثل، على الأقل إلى الآن أوراق قوة تعوض ضعف القاعدة الاجتماعية الداخلية للنظام. قوة هذه الورقة تكمن في تشكيلها تهديداً أن إسقاط نظام بشار سيعقبه حمام دم، مادام أن خصوم هذا النظام و أنصاره ليسوا فقط من العناصر السورية بل إن الفريقين سيغرفان من مخزونهما الاقليمي. هذا أمر غير مريح للغرب، لأن الفوضى وتحول سوريا لدولة فاشلة يمثل تهديداً حقيقياً لإسرائيل وأوروبا المجاورتين وكذلك لمصالح أمريكا. بسبب هذين البعدين اللذين لما يكونا ظاهرين قبل عامين، فإن تعامل الغرب من نظام بشار مختلف اليوم عما كان عليه قبل سنتين. وبناء على ذلك، فإن تجاوز الخط الأحمر الذي قام به بشار، إن ثبت، بقذف خصومه بالأسلحة الكيميائية سينتج عنه عقاب يراعي هذه المتغيرات. لذا، سيكون هذا العقاب رمزيا إلى حد كبير. إنه لرفع العتب وللمحافظة على المصداقية فقط. لكنه لن يغير في توازن القوى بين النظام و خصومه. فما تسرب عن الضربة أنها لن تستهدف الدفاع الجوي ولا القدرات الجوية ولا الأسلحة الكيميائية ولا منظومة الصواريخ ولا العتاد العسكري للنظام. لذا، يمكن «تصنيف» هذه الضربة لتدخل ضمن صنف ضربات كلينتون لصدام سنة 1998 حين ضرب مبنى المخابرات العراقية بأربعين صاروخا «توما هوك» قيمة كل صاروخ مليون دولار (أي أن تكلفة الصواريخ في تلك الضربة كانت أربعين مليون دولار) فيما كانت كلفة المبنى المستهدف مليوناً واحداً. بالحسبة المالية، ستكون خسائر أمريكا وحلفائها في هذه الضربة أكبر بكثير من خسائر الأسد.