لا تنتصر ثورة إلّا إذا حسمت أمرها بالتصدّي العنيف لقوى الثورة المضادة، بالسجن والنفي والقتل للذين يقفون ضدّها أو حتى يحتمل أن يقفوا ضدّها، كذلك نجحت الثورة الإيرانية والثورة البلشفية والصينية أيضا، حيث يفسح المجال لبناء جديد على أنقاض بناء قد تمّ التخلّص منه. والثورات التي لا تحسم أمرها – تتساوى فيها القوى منذ السنوات الأولى – تنتهي دائما بانتصار القوى المضادة، لأن هذه الأخيرة لم يتمّ التخلّص منها، فتعيد بناء ذاتها سريعا أمام القوى الثورية المتردّدة التي غالبا لا تمتلك مفاصل الدولة، ثمّ تنتصر عليها، وبوسائل ديموقراطية أيضا. حدث هذا في كثير من الثورات، أهمّها «الثورة البرتقالية في أوكرانيا» في مطلع سنة 2005، فقد خرجت القوى الثورية في ملحمة جماهيرية عظمى وسلميّة لتسقط رئيس الوزراء « فيكتور يانكوفيتش». ووقف الزعيم الجديد، قائد الثورة «فيكتور يوشينكو» في ساحة ميدان الاستقلال، في جانفي 2005، قاطعا على نفسه، أمام الثوار، أن يحقق عشرة أهداف لصالح مناصريه وشعبه. ولكن، وبعد مرور خمس سنوات من الثورة، لم يتحقق شيء منها، وخرجت كبرى وسائل الإعلام بعناوين متشابهة مفادها «الموت الحزين للثورة البرتقالية» وذلك بعد أن خسر «يوشينكو» ومن بعده «شريكته يوليا تيموشينكو» الانتخابات، ليعود «يانكوفيتش» إلى موقعه. ويعود فشل هذه الثورة إلى أربعة أسباب، عجز حكومة «فيكتور يوشينكو» عن محاربة الفساد، الإفلاس الأيديولوجي لأهداف الثورة التي لم تتحقق، عدم تقديم الدعم من القوى الخارجية وخاصة الاتحاد الأوروبي، وعمليات شراء النواب في البرلمان لصالح «يانكوفيتش»، هذه الأسباب أدّت إلى اهتزاز ثقة الشعب في الحكومة، لذا عاقبها في أوّل موعد انتخابي بإرجاع من قامت ضدّهم الثورة. مصر وتونس ثورتان لم تحسما أمرهما، فهما تشابهان ثورة أوكرانيا على الأقل في البدايات، في عدم تحقيق الأهداف، وضعف الحكومات، وتغوّل قوى الثورة المضادة من الداخل والخارج، وتونس أقرب من مصر لهذا المثال. هذه الحكومات ضعيفة، غير قادرة على محاربة الفساد، بل إن الفساد يزداد، الفوضى الأمنية متواصلة، غياب التنمية، غياب التشغيل، عدم وجود قيادات ذات مصداقية جماهيرية، الدستور في طور الرفض والقبول، التراجع عن القرارات أصبح يوميا، وكل يوم تحقق الثورة المضادّة «ركلة ترجيح» لصالحها وذلك بزعزعة ثقة الجماهير في الحكام الجدد. وفي تونس لم يبق للثوّار سوى ركلة ترجيحية واحدة، ألا وهي قانون تحصين الثورة والعزل السياسي، فإن مرّر القانون قد تعود الثقة للشعب مرّة أخرى، وإن تمّ التراجع عنه، فستعزل القوى الثورية نفسها بنفسها. ممّا لا شكّ فيه، فإن قوى الثورة المضادة قد أخذت نفسا عميقا لاسترداد القوى في حكومات الغنوشي والسبسي، وقد ساندتها كل القوى الخارجية التي إمّا تعمل على إسقاط أنظمة الإسلام السياسي، أو تلك التي تخشى نجاح التجارب الجديدة فتحترق بلدانهم. عندما لا يحسم أمر الثورة منذ البدايات، تصبح المسألة مجرّد إعادة توزيع أدوار وتفاهمات على التفويت فيما يمكن التفويت فيه من القوى المضادة للثوار. وإنني أخشى على إعلان موت الثورة لو أسقط قانون العزل السياسي والتحصين.