تعد سوق «العلاقات العامة» في المملكة من الأسواق المزدهرة التي لاقت إقبالاً كبيراً على خدماتها في السنوات الماضية؛ نتيجة التطور الكبير الذي شهده قطاع الأعمال، وعلى الرغم من عدم امتلاك العديد من الشركات لجميع أدواتها لتقديم خدمات مميزة ومتطورة في هذا المجال، إلا أن حاجة المجتمع والمؤسسات والمنظمات لخدمات «العلاقات العامة الحديثة» أسهمت في وجود أرض خصبة لها في السوق السعودية، فيما يقف الكادر السعودي المؤهل متخوفاً الدخول والامتهان لهذا المجال الحيوي؛ لأسباب عديدة، من أهمها أن أقسام الإعلام في الجامعات السعودية، التي تشمل تخصص العلاقات العامة، تعاني مناهجها عزلة كبيرة فيما تتطلبه السوق والتطورات الحديثة التي تمر بالصناعة، وعدم توفير فرص تدريب عملي يخرج عن النمط التقليدي والمكرر لطلاب العلاقات العامة؛ وضعف وقلة مهنية الإدارات التي تقوم بتدريبهم، وغياب الآلية المناسبة لتقييم الطلاب. حاجة ماسة ويرى المعيد في جامعة الملك سعود، وخريج شعبة العلاقات العامة، فيصل الشهري، أنه على الرغم من أن عمل شركات العلاقات العامة يهدف الربحية وتنمية رأسمالها فقط، إلا أن وجودها بات ضرورياً، وقال «في ظل التضخم الكبير الذي شهدته السوق في وقت مُتسارع، بعد أن ألقى التطور المتزايد في كل جوانب الحياة بظلاله على المجتمع، وهو الأمر الذي أوجد تعقيداً في العلاقات، وكانت الحاجة ماسة لوجود مؤسسات وإدارات للعلاقات العامة، لا يقف دورها عند إيجاد صورة ذهنية إيجابية للمنشأة كما هو السائد، بل يتجاوزه إلى تأمين التوافق اللازم بين وحدات المجتمع على اختلاف أهدافها». تلميع الرئيس وقال علوي الجفري، مستشار الاتصال الاستراتيجي في شركة أداليد، التي تتعامل مع دوائر حكومية من أهمها وزارة العمل «إن تلميع الرئيس التنفيذي للشركة هو جزء من تلميع العلامة التجارية، وهذا ما يبرر استقالة الرئيس عند حدوث أي فضيحة في الشركات الكبرى؛ لأنه جزء من هذه العلامة التجارية». واعترف أن إخفاء جزء من الحقيقة جزء من الحياة ليس فقط في العلاقات العامة، بل في طبيعة الإنسان، ألّا يذكر ما يكره. ونفى الجفري أن تكون هناك آليات تتبعها الشركات لقياسات متخصصة للرأي العام في المنطقة العربية برمتها، وقال «إننا مازلنا في طور البداية، وقياس الرأي العام يعد علماً منفصلاً بذاته، ومحاولات قياس اتجاهات الرأي تبشر بأن القطاع قادم، لكن لا يمكن المقارنة بما وصلت إليه صناعة الرأي العام في أمريكا وأوروبا». نفاق اجتماعي ورأى المستشار الإعلامي لإحدى شركات العلاقات العامة، فيصل العواضي، أن تركيز شركات العلاقات العامة على الدعاية لمدير الشركة، وتلميع شخصيته، بدلاً من التركيز على المشروع أو السلعة والفكرة، من الأخطاء التي تقع فيها تلك الشركات والقطاعات، واستطرد «هذا يذكرني بإعلان قرأته في إحدى الصحف العربية الصادرة في أربعينيات القرن العشرين، حينما نشرت إعلاناً لمشروب غازي، وبعد ذكر اسم المشروب، بدأ الإعلان يتحدث عن وكيل هذا المشروب في البلد المعلن فيه، ووصف هذا الوكيل بأنه رجل وطني، وأنه مستقيم حسن السيرة والسلوك، وهنا لا يوجد أي رابط بين السلعة والوكيل». مشيراً إلى أن بعض شركات العلاقات العامة تجعل وكيل المنتج أو مالكه محور الحديث أكثر من المنتج، وقال «من هنا تحول عمل العلاقات إلى نوع من النفاق الاجتماعي». إيصال رسالة ويؤكد العواضي أن شركات أو إدارات العلاقات العامة ليس هدفها التضليل أو تزيين السيئ، وإنما إيصال رسالة الجهة التي تمثلها إلى الجمهور المستهدف بوضوح، وعادة ما تكون الرسالة محورها نشاطاً مشروعاً ومصرحاً به نظامياً، ومهمة شركة العلاقات العامة تقف عند إيصال الرسالة وتجميل حقيقة المنتج أو الفكرة. ورأى أن اتهام شركات العلاقات العامة بالتضليل لا مبرر ولا سند له، ملقياً باللائمة في هذا الأمر على توظيف شركات العلاقات العامة للتأثير في الرأي العام، من قبل أصحاب المشروعات ورؤوس الأموال، على الجهات المختصة التي لابد أنها فسحت لهذا المنتج أو تلك الفكرة سلفاً. بيع الوهم ونفى أن تكون شركات العلاقات العامة بائعة للوهم، مؤكداً أنها شركات تعمل بضمير مهني قبل الترخيص النظامي، مشيراً إلى الحاجة الكبيرة لهذه الشركات لإيجاد علاقات مبنية على أسس علمية بين أطراف المعنية، مبيناً أن ذلك بات ضرورة ملحة في ظل تطور العصر، ونوّه إلى أن عمل شركات العلاقات العامة أصبح مهماً لتصحيح الأخبار المغلوطة، التي غالباً ما تكون مصدرها الإشاعات الكاذبة والظالمة التي تضر بأطراف كثيرة». وأضاف قائلاً «إن أكثر من يتهم شركات العلاقات العامة بتضليل الناس هم طالبو الخدمة، فقد يتفاجأ صاحب منتج لم يجيد تسويقه أو تعثر ولم يستطع المنافسة، ولا يجد أمامه إلا حاجته لأن تقدم له شركة العلاقات العامة وصفة سحرية من (وصفات التضليل)؛ لحل الازمة، وهذا أمر لا يخدم شركات العلاقات العامة ولا المستفيدين من خدماتها». احتكار السوق ويؤكد الإعلامي الدكتور سامي المهنا على ضرورة إعادة رسم الصورة الذهنية لشركات العلاقات العامة، التي ارتبط وجودها وأداؤها بوجود عمالة وافدة من جنسيات معينة، وأصبحت نظرة الناس إلى هذه الشركات تصور اعتمادها على التضليل والكذبة البيضاء كما تسمى. ونوه إلى الحاجة الملحة لتطوير الثقة بين شركات العلاقات العامة والمجتمع، من خلال كوادر سعودية مؤهلة في هذا الجانب، وقال «إن الحاجة إلى كوادر سعودية مؤهلة في هذا الجانب أصبح أمراً ضرورياً، على الأقل لتعزيز الثقة بين شركات العلاقات العامة والمجتمع؛ ليكون القبول أكبر». تكوين ذاتي وأضاف المهنا «من المؤسف أن معظم الملتحقين بدراسة العلاقات العامة في الجامعات السعودية لا يملكون أي تكوين ذاتي يؤهلهم للعمل في هذا المجال الحيوي، بل يقوم الأمر على تخيلات مفادها أن عمل العلاقات العامة يقتصر على العمل في الاستقبال، بوظيفة موظف استقبال (ريسبشن)، أو تنظيم المناسبات في أي مؤسسة؛ لذا يلتحق بهذا التخصص كل من عجز عن الالتحاق بأي تخصص آخر، وفق النمط السائد للتخصصات الجامعية، وقد يكون هذا الطالب مجبراً أو مكرهاً على قبول هذا التخصص». ثقافة الاستخدام وشدد المهنا على الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه شركات العلاقات العامة في تصحيح «ثقافة الاستخدام»، مستدلاً، بتقنية «البلاك بيري»، كان الهدف الأساسي من اختراعها لتلبية حاجات رجال الأعمال والمستثمرين الذين يريدون أن يكونوا على اتصال بأعمالهم من أي موقع، إلا أن الأمر بات هذه الآونة يتعدى رجال الأعمال، فانتقلت هذه الخدمة إلى أيادي صغار السن، والمراهقين على حد سواء. واستدرك قائلاً «إن دور تبصير المستهلك وتعريفه بالمنتج بكل جوانبه من أهم عمل العلاقات العامة مستقبلاً، وهو دور غائب تماماً، فنحن كمجتمع استهلاكي مفتوح نتعامل مع كل المنتجات والسلع من كل الدنيا». ضبابية المفهوم وأشار أستاذ الإعلام والعلاقات العامة في معهد الإدارة العامة بالرياض، علي المطيري، إلى وجود ضبابية حول مفهوم العلاقات العامة، مبيناً أن المتخصصين لم يقدموا عملاً مهنياً محترفاً يجبر المسؤولين في قطاع الأعمال والمنظمات على الإيمان بدور العلاقات العامة، كما أن المسؤولين ليس لديهم الرغبة في البحث والاهتمام والتركيز على دور العلاقات العامة كشريك رئيسي في نجاح عمل أي منظمة. ويضيف المطيري «من حيث النظر لديناميكية العلاقات العامة في أجهزتنا الحكومية، وحتى الخاصة منها، تجدها غائبة تماماً، ومحصورة في مهام محدودة، لا تشكل أقل من 5 % من أعمال العلاقات العامة؛ فالنظرة لها قاصرة، وهناك عدم إيمان بدورها، حيث تحدد لها مهام معينة، مثل الاستقبال والتوديع وقراءة الصحف؛ ما شكل مع مرور الزمن انطباعاً سلبياً عن دور إدارة العلاقات العامة؛ حتى أصبحت (عمل من لا عمل له) في المنشأة، بل باتت (منفى) لغير المرغوب فيهم في المنشأة أو المؤسسة، وهذا الأمر يمكن ملاحظته في الكثير من الأجهزة الحكومية». فك الارتباط وعن مفهوم «العلاقات العامة» الممكن تطبيقه ميدانياً لفك الارتباط بين الواقع «السائد» والحديث «الصحيح»، يرى المطيري فرضية أن تقوم إدارة العلاقات العامة بعملية الاتصال الرئيسية بين المنظمة وجمهورها الداخلي وبين المنظمة وجمهورها الخارجي، فدورها بكل بساطة مسهل لعملية الاتصال، وحلقة وصل مهمة في نقل المعلومات والأفكار بين المنظمة والمستفيدين من خدماتها، وفق أساليب علمية تنطلق من قياس الرأي العام، وقياس الصورة الذهنية، وتحليل الجمهور المستهدف، واختيار الأسلوب الاتصالي المناسب للوصول إلى جمهورها، وهو أيضاً شريك في عملية اتخاذ القرار، فعلى سبيل المثال، الشركات والمؤسسات العالمية لا يمكن أن تتخذ قرارات لها علاقة بجمهور المنظمة، بدون أن يكون لإدارة العلاقات العامة أو مستشار العلاقات العامة للمنظمة دور رئيسي في قياس أبعاد هذا القرار وتأثيراته السلبية أو الإيجابية على المنظمة، من خلال معرفة الرأي العام وتوجهاته نحو المنظمة. نمو عالمي وأكد المطيري أن الوضع الحالي للعلاقات في معظم بلدان الوطن العربي يقتصر على تنظيم المناسبات، وإعداد المنشورات فقط، وقال «إن المنظمات والمؤسسات تنظر إلى شركات العلاقات العامة حين تواجه الأزمات، فتلجأ للاستنجاد بالمتخصصين لحل هذه الأزمة، وهذا أسلوب عالمي متبع كثيراً في أمريكا وأوروبا، وعلى المستوى المحلي، وقد بدأت بعض الشركات في المنطقة الاستعانة بشركات العلاقات العامة لمساعدتها في تطوير العملية الاتصالية لديها، وإيصال أفكارها لجمهورها المستهدف بأسلوب علمي وفق طريقة، ولكن -مع الأسف الشديد- المتخصصون في هذا المجال قلة، حيث يسيطر على السوق من لا علاقة له بالعلاقات العامة، ويحصر دورها في المساعدة في إصدار مجلة إعلامية أو منشور إعلامي أو تنظيم ندوات ومؤتمرات، وإغفال الأدوار الاتصالية الأخرى للعلاقات العامة في تحليل الجمهور المستهدف، ودراسة الصورة الذهنية للمنشأة، وتحديد هوية لها، ودراسة العوامل المؤثرة في المشكلة، من ثقافة أو سياسات متبعة، أو قوانين عامة، ودور قادة الرأي وما إلى ذلك، فكل ذلك أدى إلى انتشار مفهوم خاطئ عن شركات العلاقات العامة، بأنها شركات خدمية فقط لتنظيم المناسبات والفعاليات، فهذا بالتأكيد بعيد كل البعد عن دورها الحقيقي، ولاشك أن صناعة العلاقات العامة تشهد تقدماً واضحاً في العالم، فمثلاً في أمريكا تشير الكثير من الإحصائيات والأرقام إلى أن صناعة العلاقات العامة من أكثر الصناعات تقدماً وتحقيقاً للنمو في السنوات الأخيرة، بل وتذهب الإحصائيات إلى أبعد من ذلك، عندما تتوقع استمرار هذا النمو حتى عام 2015 بحسب جمعية العلاقات العامة الأمريكية. المسؤولية الاجتماعية ويعتقد المطيري أن تفعيل دور المؤسسات وقطاع الأعمال تجاه المجتمع، هو دور العلاقات العامة بالأساس، وقال «يجب أن يدرك الجميع أهمية وجود إدارة العلاقات العامة في كل منشأة، ولأهمية دورها الرئيس في (إدارة سمعة المنشأة)، لها دور مؤثر في إيجاد برامج تُعنى بالمسؤولية الاجتماعية، تقدمها المنشأة للمجتمع؛ حتى تحقق أهداف العلاقات العامة، مثل إيجاد الولاء للمنشأة، وإيجاد صورة ذهنية إيجابية على المدى البعيد». الجامعات السعودية وعرّج المطيري في حديثه على أقسام الإعلام في الجامعات السعودية، وقال «مع الأسف الشديد أقسام الإعلام لدينا، التي لديها تخصص العلاقات العامة، تعاني من عزلة كبيرة فيما تتطلبه السوق والتطورات الحديثة التي تمر بها هذه الصناعة، ورغم جهودهم الحثيثة في إيجاد فرص تدريب عملي لطلاب العلاقات العامة؛ إلا أنها لا تخرج عن النمط التقليدي والمكرر، من خلال إرسال الطلاب لإدارات العلاقات العامة في جهات أصلاً لا ترغب فيهم، ولا تمنحهم الوقت الكافي للتدريب، إما لضعف وقلة مهنية هذه الإدارات، أو لغياب الآلية المناسبة لتقييم الطلاب، ففي أمريكا -مثلاً- تقوم جمعية طلاب العلاقات العامة الأمريكية، التي تنطلق من الجمعية الأم وهي الجمعية الأمريكية للعلاقات العامة، القائمة على الطلاب في المقام الأول، بإشراكهم في أنشطة العلاقات العامة، والأهم من ذلك عقد لقاءات دورية بين طلاب الجمعية والممارسين للعلاقات العامة، وتشكل هذه اللقاءات فرصة كبيرة للطلاب للتعرف على ما يجري في السوق، والاستفادة والاحتكاك المباشر بالمتخصصين، من خلال عقد ورش عمل ودورات تدريبية؛ لذلك عندما يتخرج الطالب يكون على اطلاع كبير بما يحدث في هذه الصناعة، بعكس ما يحدث لدينا؛ فقلة من الطلاب من يتدربون وينخرطون في العمل قبل التخرج، وهذا بالتأكيد مشكلة كبيرة تواجهها صناعة العلاقات العامة في المملكة. فيصل الشهري