في فترة التمحور حول الذات كنا نظن أن ما لدينا من مدارس ومعاهد، وجامعات، وخطاب وعظي، كفيلٌ باستقامتنا على الصراط، واتضح فيما بعد أن أبرز ما خرجنا به من شرنقات التلقين ازدواج شخصياتنا، وبلادة الحسّ الجمعي تجاه مشاريعنا الوطنية الإصلاحية، ومنذ أسابيع خلتْ استضافت وزارة التربية والتعليم في آخر ملتقياتها دولة فنلندة باعتبارها رائدة في التعليم، وقدّم الضيوف تجربتهم، واستمعنا لهم وشاركناهم في ورش العمل، فهل سنتحوّل على أيديهم إلى ورشة تربوية وتعليمية تنتج مجتمعاً ناهضاً وتقنياً؟ أرجو ذلك بكل ما في دمي من انتماء لأهلي وناسي، إلا أنني في ختام المُلتقى سألتُ نفسي عن أعداد المُفكّرين في وزارة التربية والتعليم، هذا إن توافر مفكرون، وما مدى فاعليتهم في وضع أسس سليمة لتعليم حديث ومواكب يحترم عقلية الإنسان ويؤهله بالمعرفة لخوض غمار الحياة ويُخرجه من دهليز مهد لا يتجاوزه الطفل حتى يبدأ يفكّر في العودة إلى اللحد، ومَنْ لديه من القراء وقتٌ للقراءة، فليتابع ما وصلت إليه فنلندة من رُقي وتمدن ببركة التعليم الوطني الصادق، الذي وضع أسسه مُفكّرون مع جُل احترامنا للوعظ، ولربما لا يمكنني في مساحة كهذه التقييم الكلي والتفصيلي لجهاز التربية والتعليم سوى من خلال الميدان، فأنا أتابع الحملات الشعاراتية المألوفة فيما بيننا، وأرى أن المُخرجات هي الحكم الفاصل بيننا وبين مؤسسات التربية والتعليم، ومن حق كل قارئ أن يبحث في أسباب خروج ماليزيا والهند، وقريباً أندونيسيا من مصاف دول العالم الثالث إلى العالم الثاني، وقريباً إلى العالم الأول؟ وحتى لا أستهلك المساحة في التنظير دعونا نذهب إلى مكوّنات البيئة التعليمية لوزارة التربية والتعليم، فعلى مستوى الفضاء المدرسي تكشف لنا مواقع التواصل الاجتماعي ترهل، واهتراء في بعض المباني هذا إن كانت حكومية، أما المستأجرة فصعب تقييمها على أنها محاضن تربوية، ويلاحظ البعض نمو حالة التوحش في بعض مدارسنا المُكتظة بالأعداد، ولعل أحد أسباب التوحش هذه الكتل الصماء المحيطة بالكائن البشري دون توفير مساحات خضراء، ولا ملاعب ولا صالات أنشطة، وحين لا تتوافر الشروط الموضوعية في مبنى، فكيف نطلب المعنى؟ وأعني به المرسل والمستقبل في ظل بيئة طاردة وغير جاذبة؟ ولستُ ألومُ مُعلّماً على تراجعه المهني أمام إجهاده اليومي بين فصول مُكدّسة بالأجساد، ونشاط ليس له من النشاط سوى اسمه إضافة إلى ما يعيشه من خوف نفسي، وقلق على نفسه وسيارته ومستقبله الوظيفي، وقد نتفق جميعاً على أن المناهج حتى مع تحديثها صورياً لا تختلف مضامين بعضها كثيراً عن الخُطب، فحتى على مستوى الجامعات لم يتحرر المنهج من قبضة واضعيه ومراقبيه والمتوجسين على عقول الطلاب من الأفكار المنحرفة!! وبعض الإدارات دورها ضبط الدوام كما لو كانت في ثكنة عسكرية، وتوجيه الإنذارات، وحصر الأخطاء، ولفت النظر وتوزيع التعاميم وتوقيع عقود المناقصات! ألا وإن في كل دولة جهازاً إذا صلُح صلُحت الدولة بأجمعها ألا وهو التعليم.