تحظى شخصية رئيس الوزراء الأردني الأسبق معروف البخيت باحترام كبير في الأردن، وجاءت حكومته الثانية في شهر فبراير الماضي لتسهم في تهدئة الشارع الأردني بعد شهر عاصف من المسيرات التي أسقطت حكومة سلفه سمير الرفاعي. ولكن شعبية حكومته تراجعت بسبب بعض الملفات التي شابها بعض الفساد، منها مشروع إنشاء كازينو قرب البحر الميت، وكذلك خروج أحد أشهر سجناء الأردن رجل الأعمال خالد شاهين للعلاج في الخارج، في ملابسات أثارت سخط الشارع الأردني. وتعرضت حكومته لهزة قوية أدت إلى تصاعد الهتافات في الشارع للمطالبة برحيلها. والبخيت المولود في العام 1947 معروف بتواضعه الملحوظ رغم قوة شخصيته، ويعرف بمستوى معيشته المتوسط. ولا يعمل البخيت نهائياً في مجال الأعمال والشركات، بعكس معظم رؤساء الوزارة في الأردن. وعلى الرغم من تمسك البخيت بتجنب اللقاءات الإعلامية لحساسية موقفه، وتمسكه بتجنب الحديث عن الشأن الأردني الداخلي، إلا أن «الشرق» نجحت بعد محاولات عديدة، في محاورته، التي عبرت عن مواقف بالغة الأهمية تلقي الضوء على كيفية إدارة الدولة الأردنية، والعديد من القضايا الملحة مثل العلاقات الأردنية مع حماس، والأحداث في سورية، فلا يعتقد البخيت أن نظام الأسد سينهار، ولكنه يرى أن تسوية كبرى تشمل جميع الأطراف في المنطقة سيتم إنجازها، ويحذر ضمنياً من أي اندفاع أردني للتدخل في الشأن الداخلي السوري كما يراه، ملمحاً إلى أن أي انهيار أمني في سورية سيضر بالأمن الأردني، وهذا نص المقابلة: * - معروف البخيت معروف عنك اعتزازك بأردنيتك، وبأنك من أبناء الفئات الشعبية، هل عملت في طفولتك؟ وما أثر ذلك على شخصيتك لاحقاً؟ - أنا من أسرة من الطبقة الوسطى من ماحص (غرب عمان)، وكان جدي من جهة والدي وجيهاً في جماعته، ويعمل أساساً بالزراعة، وكان يعدّ من الملاكين الكبار في بلده. وانتقل عدد من أولاده إلى عمان في الثلاثينيات بحثاً عن فرص عمل أفضل، ومنهم والدي الذي استقر نهائياً في عمان في بداية الأربعينيات. وعملت في طفولتي وشبابي أثناء الدراسة في أوقات العطلات في مختلف المهن المتاحة لشاب صغير، والواقع أن منظومة القيم التي كانت سائدة حينذاك، التي تشجع على العمل، ساعدت في هذا الأمر. وساعد عملي المبكر دون شك على تطوير شخصيتي ومنحني فرصة للتعرف على جميع شرائح المجتمع ومعرفة همومهم وآمالهم، وكذلك القدرة على التعامل معهم. وربما طور هذا الاشتباك المبكر مع أبناء الطبقات محدودة ومتوسطة الدخل اعتزازي بأردنيتي. * - عملت سفيراً للأردن في إسرائيل، وقبلها كانت لك تجربة معهم في مفاوضات السلام. هل هناك تيارات رئيسية في إسرائيل تبني رؤيتها على اعتبار الأردن وطناً بديلاً؟ ولماذا يشعر الأردنيون أن إسرائيل تتعالى عليهم؟ -المجتمع الإسرائيلي ليس كبقية المجتمعات، فهو تجمع لشرائح سكانية جاءت من بيئات وثقافات مختلفة. وهناك انقسامات وإشكالات عميقة في المجتمع الإسرائيلي. وقد انشغل منظرو الصهيونية منذ وقت مبكر بالإجابة عن سؤال «ماذا نفعل بالشعب الفلسطيني؟»، بين استيعاب وتهجير والبحث عن أماكن جديدة لنقلهم إليها. وبعد تنفيذ المشروع وإقامة إسرائيل واحتلالها لاحقاً لكل فلسطين، ومع استمرار المقاومة والعنف في المنطقة، أدركت غالبية الإسرائيليين استحالة اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وأيدت مساعي السلام وإقامة دولة للفلسطينيين، وهو الأمر محل الإجماع الدولي حالياً. ومع ذلك وبين الفينة والأخرى تخرج أصوات بعض المتطرفين اليهود تنادي باعتبار الأردن وطناً للفلسطينيين. ومع إصرار الفلسطينيين والأردنيين على إقامة الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني ستبقى هذه الأصوات معزولة وغير ممكنة. وغالبية الإسرائيليين يحترمون الدولة الأردنية، فمن وجهة نظرهم قاتل الأردنيون في حروب 48 و67 بشجاعة، حيث كانت الخسائر الإسرائيلية على الجبهة الأردنية أكثر من خسائرهم على جميع الجبهات الأخرى. وهم يقدرون التزام الأردنيين وصدقهم في الحرب وفي السلام. أما عن نظرة التعالي على الأردنيين ربما تعود إلى عقدة الأمن التي تحكم سلوك إسرائيل وإجراءاتها، فالإحساس بالخوف لديهم يجعلهم أكثر تشدداً. * - إلى أين تتجه الأمور في الملف السوري؟ - الملف السوري شائك ومعقد، وواهم من يعتقد أن الحالة السورية ستسير بنفس الكيفية التي حدثت في مصر وتونس وليبيا، ولذا لن يغلق ذلك الملف أو ينتهي إلى مآل معين بوقت قصير. وبالتأكيد أن سورية العام الجديد لن تكون كما هي عليه اليوم، ولكن التعامل مع المسألة السورية يعني التعامل مع الفضاء الشامي كاملاً، إضافة إلى القوى الإقليمية غير العربية (تركيا وإيران وإسرائيل)، فالتغيير في سورية يعني التغيير في لبنان على وجه الخصوص، ومن ثم توازن القوى في المنطقة. وهكذا فإن العمل العسكري في الشأن السوري مستبعد، والاحتمال الأرجح هو تسوية كبرى تشارك فيها كل الأطراف. * - كيف يتعاطى الأردن مع الملف السوري؟ هل ينبغي أن يقترب أكثر من المعارضة السورية؟ - العلاقات الأردنية السورية ممتازة، وهناك مصالح متبادلة، وأي سياسة أردنية تجاه سورية عليها أن تنطلق من حرصنا على وقف نزيف الدم وحث السوريين على القيام بإصلاحات جدية، وهذا الموقف الذي تبناه جلالة الملك والدبلوماسية الأردنية. وعلينا أن ننطلق دائماً من فكرة أن الأمن السوري جزء من أمن المنطقة والأمن الأردني. * - هناك توجهات رسمية أردنية للتقارب مع حماس. كيف ينبغي أن يتعامل الأردن مع تلك الحركة؟ هل ينبغي أن نستقبل مكاتب لها في الأردن؟ - حركة حماس هي جزء من الساحة السياسية الفلسطينية، وهذا الفصيل له مكانته في الأراضي الفلسطينية، وله تاريخه النضالي وإسهاماته في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني. بالنسبة لنا في الأردن نحن لا نتعامل رسمياً مع فصائل، بل مع حكومات. ومن المعلوم أن قرار قمة الرباط عام 1974 نص على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ووافق الأردن في حينه على هذا القرار، بالرغم من الحيثيات والخلفيات التي نعرفها جميعاً.وعليه فإن العلاقة الأردنية رسمياً هي مع السلطة الفلسطينية ومع المنظمة، طالما أن هذه العلاقة تخدم المصالح العليا للدولة الأردنية، وفي مقدمتها إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وعلى قاعدة أساسية تلبي المصالح الأردنية، وفي الأساس منها حل قضية اللاجئين وإقرار حق العودة بالإضافة إلى ملف القدس والمياه والحدود وغيرها. وهذه هي القاعدة في العلاقة مع المكونات الفلسطينية لتحقيق الهدف الأسمى الفلسطيني، وبما يحقق متطلبات الأمن القومي الأردني. * - قدمت رؤية إصلاحية موسعة في ورقة مفصلة تحدثت لأول مرة في الأردن عن تداول السلطة وأنتم على رأس عملكم كرئيس للوزراء في حكومتكم الأولى عام 2007. في ضوء ذلك كيف تقيم الإصلاحات التي تمت في الأردن حتى الآن، وكيف تقيم الحراك الشعبي؟ - لقد أدركت في وقت مبكر أننا في الأردن نواجه جملة من التحديات. ولا تقتصر تلك التحديات على النواحي الاقتصادية وندرة الموارد الطبيعية أو الاجتماعية، بل إننا نواجه تحدي تطوير حياتنا السياسية. وعليه فقد تضمنت رؤيتي تبني سياسات من شأنها التدرج للوصول إلى حالة برلمانية يتم فيها تولي السلطة التنفيذية، وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية ورؤية شمولية مع وجود سياسات وأهداف مرحلية يتم تحقيقها ضمن أطر زمنية محددة.والخطوات الإصلاحية التي تمت في الفترة القريبة الماضية في الأردن خطوات تصب في الوصول للهدف النهائي، وعلى وجه الخصوص خلال العام 2011، فقد تم إنجاز قانون الاجتماعات العامة وقانون نقابة المعلمين والاستراتيجية الإعلامية وهيكلة مؤسسات الدولة، وهيكلة رواتب موظفي الدولة بما يزيل التشوهات ويحقق العدالة. ولكن الأهم كان هو إجراء التعديلات الدستورية، وتحضير جميع الاستحقاقات التشريعية من قوانين الانتخاب والأحزاب والهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات والمحكمة الدستورية ومحكمة العدل العليا. ما تم إنجازه خلال هذا العام ووسط كل هذا الصخب كثير ومهم، وأية قراءة محايدة وهادئة سوف تكون منصفة للحكومة وإنجازاتها خلال عام 2011. وعلينا أن ندرك أن الأردن عام 2011 هو أردن جديد بخريطة قوى اجتماعية مختلفة. وحراك المحافظات هو نتيجة لفشل السياسات التنموية في السابق، ولابد من إجراء مراجعات جديدة وعميقة للسياسات التي كانت متبعة التي فشلت في إنجاز التنمية المستدامة. والسبيل إلى كل ذلك هو الحوار. * - قدمت حكومتكم الثانية مشروع إعادة هيكلة رواتب الموظفين الذي من المنتظر أن يحقق مقداراً كبيراً من العدالة، كما أحلتم عدداً كبيراً من ملفات الفساد الكبيرة التي بدأ التحقيق فيها، وأنجزتم إصلاحات دستورية ملحوظة، لماذا إذن في رأيكم كانت هناك اتهامات لحكومتكم بالبطء؟ -في مقابل اتهامات البطء التي أشرت إليها كانت هناك اتهامات ب»الهرولة» من قبل البعض الآخر. ولكن بنظرة موضوعية للفترة الماضية يتضح أن الأردن حقق وثبة إصلاحية تاريخية أثمرت منجزات كبرى لهذه المسيرة. وهذا المنجز المهم يعود الفضل فيه بالأساس إلى الإرادة السياسية العليا، وإلى المجتمع المدني والمجتمع السياسي الأردني، وإلى التعاون والتكامل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أي إلى العمل المؤسسي الذي هو سمة من سمات الدولة الأردنية.نعم أنجزت الحكومة التي تشرفت برئاستها الكثير. وهيأت البنية اللازمة والضرورية لانطلاقة قوية. والحكومة التي عملت طيلة ثمانية شهور مثل خلية النحل لإنجاز الإصلاحات الإدارية والسياسية والتشريعية، وقدمت برنامج إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يمثل انتصاراً للعدالة ومكافحة الفساد. ونشعر بالامتنان كذلك إلى كل القوى الشعبية والسياسية التي تمسكت بالصورة المشرقة للأردن، وأصرّت على سلمية الاحتجاجات ورفضت منطق الاستفراد. كما أن الحكومة ما كان لها أن تحقق هذه التشريعات الإصلاحية النوعية لولا توفر ذات الإرادة لدى مجلس الأمة، ولولا النقاشات الثمينة والإسهامات المهمة التي قدمها نواب الأمة. جنود من الأمن الأردني في عمان (أ ف ب)