علي الرباعي لكل مدينة ملامحها المائزة لها عن سواها، وتفاصيلها التي تسكن الذاكرة بفطرتها، وإذا كانت لكل مدينة علامتها الفارقة، فالعلامة هنا في المناخ المعتدل صيفاً، والباذخ ربيعاً، والقارس شتاءً، والمتغطرس برياحه الخريفية، لتظل الباحة أشبه بالقرية (الأم) المظلومة بتضاريسها الجبلية الوعرة، فيما هضمها سوء التخطيط بحسب عدد من أهالي المنطقة الذين يرون أن فتح الشوارع، وتقسيم المخططات، والمدّ داخل حيّز النطاق العمراني خضع لاعتبارات غير موضوعية، ومصالح آنية، شوهّت ملامح المدينة إذ إن التوسع داخل المنطقة المركزية متعذر، وبقاء الحال على ما هو عليه مدعاة للاختناق المروري والبشري، ولذا جاءت مطالب أهالي منطقة الباحة ودعواتهم إلى الانفتاح على شرق الباحة لتفكيك بؤر الازدحام اليومي في الشارع الرئيس وسط الباحة، وشارع المطار الذي يتوزع على رصيفيه أكثر من عشرين مؤسسة حكومية وأهلية، منها خمسة بنوك تتسبب في ربكة مرورية خانقة، لا يملك إزاءها رجل الأمن إلا التنبيه بالمكبر، موجهاً نداءاته المتكررة لأصحاب المركبات بالتحرك، وعدم التوقف دون أن يجد استجابة مصغية، فالمواطنون مضطرون للوقوف لمراجعة أمانة الباحة، أو المحكمة أو إدارة الأحوال المدنية التي لا تبعد أبنيتها عن بعضها بأكثر من مائة متر، ويفصلها مقر أحد المصارف المشتهرة بازدحامها اليومي المتزايد. المؤرخ محمد ربيع ويذهب المؤرخ والباحث محمد ربيع الغامدي إلى أن المستوطنات البشرية في الباحة انتظمت في عدة أنماط، الفريق البدوي الذي يتألف من عدة خدور داخل فضاء مفتوح من صحراء شاسعة دون تعقيدات أخرى، بينما نشأ في الواحات الزراعية المندسة في الصحراء نمط آخر من القرى التي بنيت بيوتها من الطين، على أطراف مزارع النخل، تتخللها طرقات تتعرج بتعرج حواف تلك الحيازات، لتبقى في ظهر السراة القرية الحجرية التي تنتصب بيوتها على التلال الصخرية، وعلى سفوح الجبال، متلاصقة يغذيها طريق يحيط ببيوتها، يستخدمه الإنسان ودوابه على الدوام، و أضاف ربيع، على مقربة منها تنتشر الحيازات الزراعية التي تتكون من سياج الزراعي ينطوي على أراض زراعية ومساحات خدمية تتخللها، وسياج رعوي في المناطق التي لم تمتد لها اليد لتبني فيها المدرجات، ويتخلل هذه السياجات شبكة معقدة من الطرق، لافتاً إلى أن تخطيط الأقدمين تجلى في حفظ السُبل للعابرين بأقدامهم فقط، ويسمونها (السبل النفاح) بعضها لعبور الدواب المُعدّة للجهد الزراعي، يسمونها سُبْل العاملة والناقلة، والطريق الأوسع يسمونه سبل السلطان، وهناك أسبال أخرى محدودة النفاذ مثل أسبال آبار الماء، وأسبال المسقى، مضيفاً أن شبكة التحكم في التصريف المائي، تُسمى السواقي أو الخلج (مفردها خليج) وهي موزعة بالعدل تتقاسمها الأراضي الزراعية وفق أنظمة لا ينبغي المساس بها، وكثيراً ما كانت تنشأ المنازعات حولها، ويرى أن هذا المشهد ظل قائماً حتى دخلت السيارة إلى المنطقة، ما استدعى مع دخولها قيام شبكة من الطرق أكثر اتساعاً، إلا أن تلك الطرق كانت تواجه بعوائق التضاريس من جهة، وعوائق الملكيات الزراعية وشبكات التصريف المائي من جهة أخرى، لذلك جاءت بواكير تلك الطرق مرغمة على اتباع الأسبال والطرق القائمة سابقا، على الرغم من عيوبها، ومرغمة على تجنب الحيازات الزراعية، ومراعية قدر الإمكان شبكات التصريف المائي القائمة، وأضاف عندما شاعت السيارات بصورة أكثر بعثت حياة جديدة في تلك القرى وحولها، وتركز الاهتمام في قلب المنطقة باعتباره مركز الإدارة، ثم مع توفر نظام الإقراض العقاري الذي ترعاه الدولة تمددت المساحات العمرانية، وأصبحت الحاجة ملحة إلى قيام مبادرات جديدة للتخطيط، مُشيراً إلى أن تخطيط الطريق هو مفتاح تخطيط المدينة كون الطرق تمُثّل هياكل عظمى تعطي المدينة مظهرها، و قامت مبادرات أفضتْ بنا إلى الطرق القائمة حالياً في قلب الباحة، أو فيما بين قرى المنطقة، وحتى في المخططات الحديثة مثل مخطط جبل الباهر، وهي طرق لا تختلف كثيراً عن الأنماط القديمة، مبدياً دهشته من كونها متعرجة، وضيّقة، يظهر عوارها بوضوح في فصل الصيف حيث تكتظ الباحة بمرتاديها، كما تظهر في مواسم الازدحام مثل شهر رمضان أو موسم عودة المدارس، ذلك أن تلك المبادرات قد وقعت أيضا في شراك التضاريس من ناحية، وفي شراك التخطيط الموروث من ناحية أخرى، ولعل بعض المصالح الشخصية قد ساهم في صناعة شراكه الخاصة به. د. صالح عباس حافظ من جهته، أرجع رئيس المجلس البلدي في منطقة الباحة الدكتور صالح عباس الحافظ، الاختناق المروري الموسمي الذي تعيشه مدينة الباحة إلى عجز التخطيط السابق للمدينة عن الوفاء بمتطلباتها الحالية في ظل الهجرة العكسية لبعض أهالي منطقة الباحة في ظل وجود الجامعة وتوفر الخدمات التي لم تكن موجودة في الماضي وكذلك كونها مصيفاً متميزاً ذات طبيعة وأجواء رائعة خلال فترة الصيف، مضيفاً أن عدم التناغم بين تلك الزيادة في أعداد أهالي الباحة والوافدين إليها وعدم زيادة الشوارع داخل أرجاء المدينة بالسعة التي يتطلبها واقع الحال، مؤكداً أن أحد أهم أسباب الضيق قلة اعتمادات نزع الملكيات. ويرى الحافظ أن الخروج من المحيط الضيق للمدينة كما يراه بعض الناس ممكن كون المدينة تمتد من شبرقة شمالاً حتى وادي فيق جنوباً، ومن بهر شرقاً إلى الشفا غرباً، لافتاً إلى أن الأمانة بدأت منذ أعوام في توزيع خدماتها لتشمل أرجاء المدينة مستشهداً مبنى الأمانة في الراعب ومشروع إنشاء وتطوير المنطقة الصناعية الشرقية بالمزرع، وقاعة الاحتفالات في الكراء، ومشروع سوق الخضار في الحمدة، وحديقة في متنزه شهبة، ومشروع ألعاب أطفال على قمة جبل الحبشي والساحة الشعبية والقرية التراثية بشبرقة، إضافة إلى الأعمال التطويرية في غابتي رغدان والزرائب، و دراسة الخط الدائري للمدينة و25 طريقا أخرى، إضافة إلى عدد من الكباري والأنفاق وطرق المشاة، مشيراً إلى أنه إذا أخذنا في الاعتبار الطريق الدائري الجاري تنفيذه من قبل وزارة النقل، فإن هذه المشاريع والخطط في مجملها ستضفي توسعاً جميلاً للمدينة، وأضاف كوني أحد أبناء الباحة فإن مدينة الباحة تم تخطيطها منذ أكثر من ثلاثين عاماً من خلال دراسة كلفت عشرات الملايين قامت بها شركة فنبلانكو وتم تنفيذ جزء كبير من تلك الدراسة، إلا أنه لم يتم استيفاؤها لأسباب عدة من أهمها التكاليف الباهظة التي يتطلبها تنفيذ تلك الدراسة، إضافة إلى اختلاف المرحلة بين الدراسة وواقع الحال من تغيير في المساحات السكنية والاحتياجات (المتطلبات) وغيرها. وأردف رئيس المجلس البلدي أن سيطرة العمالة الوافدة على سوق الخضار يتحمّله من تصدر التراخيص بأسمائهم من الأخوة السعوديين، كونهم يحضرون العمالة الوافدة إلى هذه المحلات للعمل فيها، مشيراً إلى بذل محاولة مطلع الصيف الماضي من الجهات المعنية للتخفيف من تلك الظاهرة، إلا أن الأمر انعكس سلباً على قلة في المعروضات والمحلات في سوق الخضار، ما أدى إلى ضرورة غض الطرف عنها لفترة الصيف اضطراراً، متطلّعاً إلى أن تتولى الأمانة مع مكتب العمل اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإبقاء أصحاب المحلات في محلاتهم أو توظيف سعوديين من خلال المتابعة والمراقبة وفي حال استمرار غياب صاحب المحل بشكل دائم يتم سحب الترخيص منه وإتاحة الفرصة لغيره، ممن هو أكثر حاجة وانضباطاً، مؤكداً أن سوقاً جديدة للخضار تحت الإنشاء سينتهي العمل منها قريبا ًبإذن الله، وروعي في تصميمها وجود محلات للباعة الرجال وأخرى للنساء . وأثنى الحافظ على فريق عمل المجلس البلدي كونهم نخبة متميزة من الأكاديميين والمهندسين والإداريين والمعلمين، وفيهم الحرص الشديد على تقديم ما في وسعهم من أجل المساهمة في إظهار مدينة الباحة بالمظهر المتميز في شتى المجالات المتعلقة بالخدمات البلدي،ة وقد حدد المجلس رؤيته وأهدافه خلال فترة ولايته التي خرج بها من خلال المراجعات لقرارات المجلس البلدي في دورته الأولى، وكذلك الاحتياجات الحالية والمستقبلية للمدينة سطرها في 14 هدفا، آملا من المجلس المساهمة في جعل مدينة الباحة من المدن السياحية المتقدمة التي بها جل الخدمات والأنشطة البلدية، ابتداء بالمساهمة في تطوير وتحسين الأداء في الأمانة وأقسامها وإمكانياتها وما سوف يعكسه ذلك الأمر على أرض الواقع من الدور الخدمي من مشاريع تنموية وترفيهية وسياحية وبيئية تصب في خدمة أهالي الباحة والوافدين إليها خلال شهور العام، ويبقى التكامل بين مدينة الباحة وباقي المحافظات مطلبا مهما لاستكمال الصورة المأمولة لمنطقة الباحة . وشدد على تمسك المجلس البلدي بدوره الرقابي على الأمانة والبلديات ومناقشة الميزانيات و مراجعتها ومتابعة المشاريع وآلية تنفيذها، مبدياً استعداد المجلس للإصغاء لوجهات نظر المواطنين، وتبني الممكن منها كون أعضاء المجلس بشراً، إلا أنهم ليسوا جميعاً تكنوقراط. من جهته أوضح أمين الباحة المهندس محمد مجلي أن الأمانة طرحت مجموعة من المشاريع التي من خلالها يتم إعادة تخطيط المدينة، أهمها مشروع المخطط الإقليمى لمنطقة الباحة، وتفعيله بهدف وضعه حيز التنفيذ بالتنسيق مع جميع الإدارات الحكومية للمشاركة في اتخاذ القرارات، إضافة إلى مشروع المخططات المحلية والتنفيذية لمدينة الباحة الذي يمثل أداة التحكم في العمران سواء القائمة أم المستقبلية ورسم شكل المدينة حتي عام 1450 ه من خلال الرؤية المستقبلية لتوزيع استعمالات الأراضي على مستوى المدينة، وبرنامج الخدمات التفصيلية ومعالجة العجز فيها، وتحديد الاشتراطات البنائية وارتفاعات المباني، وتحديد الكثافات السكانية والإسكانية، وتحديد التوسعات المستقبلية للمدينة ومعالجة القضايا العاجلة التي تعاني منها. وأكد مجلي تنفيذ طرق المخطط الهيكلي لمدينة الباحة التي تصل مجموع أطوالها 484 كم، وإعادة تخطيط وتثبيت المخططات المعتمدة السكنية لكامل مدينة الباحة من خلال مشروع تثبيت المخططات المعتمدة، وإعداد الرفوعات المساحية والعمرانية مع عمل قاعدة بيانات للمدينة من خلال مشروع إعداد خريطة الأساس لمدينة الباحة. وأضاف أمين الباحة أن الأمانة عملت على تصميم وتنفيذ الحدائق الآتية (تطوير غابة رغدان – وتطوير منتزه الأمير محمد بن سعود – ومنتزه الأمير مشاري بن محمد بن سعود) وبخصوص سوء التخطيط لمدينة الباحة، قال مُجلي : تخطيط أي مدينة من مدن العالم تواجهه مجموعة من الصعوبات والمعوقات، مُضيفاً يمكن أن توجد فجوة بين ما تم تخطيطه وما يتم تنفيذه، ونحن في أمانة منطقة الباحة لا نعاني من التكدس والاختناق السكاني، ولكن هناك بعض الإشكاليات التي تتمثل في الطبيعة الجبلية الوعرة للمدينة، ومحدودية الأراضي الصالحة للتنمية، وتبعثر وتباعد النسيج العمراني للمدينة، وارتفاع تكاليف إنشاء البنية الأساسية لطبيعة المدينة الجبلية عن غيرها، مشيراً إلى أن مجموعة المشاريع العمرانية والاستثمارية والسياحية تهدف إلى التغلب على هذه الاشكالات، وتحسين البيئة العمرانية للمدينة،وتشجيع المستثمرين، ووقف تيار الهجرة العكسية للمدينة، وعن إمكانية إعادة النظر في توسيع المدينة والخروج من المحيط الضيق في مركز المدينة، كشف مجلي أن الأمانة قامت من خلال دراسات المخطط الإقليمي بإعداد تصور عام للتوسع العمراني لمدينة الباحة وفق إمكانياتها التنموية، وعلى ضوء ذلك جرى اعتماد مشروع المخطط المحلي التفصيلي الذي يعالج جميع القضايا والجوانب التخطيطة للمدينة، وجاري حالياً ترسيته على أحد المكاتب الاستشارية المتخصصة، وعن تخطيط المدينة تخطيطاً هندسياً مدروساً، قال «أساس المدينة كنواة لم يتم تخطيطها، ولكن بمجموعة المشاريع السالفة الذكر ننهض به من مدينة غير مخططة إلى مدينة مخططة، وتم اعتماد تخطيط المنطقة المركزية، وجاري حالياً نزع الملكيات التي تعترض مسارات التخطيط، وعن وصف الباحة بالقرية التي تحولت إلى مدينة بلا ملامح، أجاب مجلي عندما يكون أصل المدينة قرية فهذا ليس قصوراً تخطيطياً، إلا أن توفير مقومات وإمكانات الحياة الحضرية لمدينة الباحة هو هدف أمانة منطقة الباحة من خلال مجموعة المشاريع التي تم ذكرها لتطوير وتحسين المدينة كمدينة سياحية، واستغلال مقوماتها الطبيعة والجبلية، وعن سيطرة العمالة الوافدة على سوق الخضار في الباحة، أوضح أن العمالة التي تعمل في سوق الخضار من اختصاص لجنة السعودة. أحد الشوارع الرئيسية في قلب الباحة
بسطات عشوائية وسط شارع رئيسي في الباحة (تصوير: صالح مصلح)