كلما حلّ شهر رمضان المبارك عادت بي الذاكرة إلى زمن الطفولة، أكثر ما كنت أفتقده في مساءات الإفطار وليالي السحور، المناخ الأسري الدافئ الذي تشيعه أجواء الشهر الكريم، كنت أتقاسم وأمي كوب الشاي وكسرة الخبز القليل. لم أَعرفْ أبي إلاّ قليلاً. كان مهاجراً إلى ما وراء المحيطات فبقيتُ وحيداً في كنف أم غلفتني بالعطف والحنان، وعلمتني الشعر والخفر والتواضع والشجاعة، وأورثتني حُبَه العارم هي التي ظلت تهواه رغم طول سنوات الهجر والبُعاد. في طفولتي كانت هي أبي وأمي، وفي مراهقتي كنت سعيداً بلا سلطة ذكورية فوق رأسي. لكن لما جاءني نبأُ رحيله بكيت، بكاء حاراً بكيت، وتفوق دمعي على دموع أخوتي الذين أمضوا العمر برفقته. الإنسان يحتاج إلى أبيه وهو رجل أكثر منه طفلاً، هكذا علّمتني التجربة. كان يوماً من أيام العام 1983، خارجاً لتوي من معتقل أنصار في جنوب لبنان برفقة أسرى تشاركت وأياهم النضال والاعتقال والتعذيب وسياط الجلادين وكسرة الخبز القليل. من داخل العربة العسكرية الإسرائيلية التي كانت تنقلنا إلى مقر الحاكم العسكري قرب صور شاهدت أمي بعباءتها السوداء التي أميزها من بين ملايين العباءات تمشي الهوينى، لوّحت لها بيدي حتى كدت أقفز من العربة دهشةً وفرحاً فما كان منها سوى الانطلاق ركضاً خلف العربة حتى كادت تسبقها. لحظةَ الإفراج عنا قبّلت أمي المحجبة التي لم تصافحْ رجلاً في حياتها ولم تكشفْ وجهها أمام ذكر إلاسرى الخمسة جميعاً لشدة فرحها بعودة وحيدها من الأسر في لحظة أمست فوق مستوى الحلال والحرام (وفقَ المفهوم الديني) معتبرة هؤلاء جميعاً أبناء لها. خرجت من المعتقل عائداً إلى مسقط رأسي وأحلامي الأولى بلدتي عيناثا الجنوبية، لأجولَ على منازل أقربائي فلا أجد في أي منها رجلاً واحداً. أسأل عمتي عن ابنها تقول ذهبَ إلى بيروت. أسأل أختي عن زوجها وزوجة عمي عن عمي تجيب في بيروت… لا أحد من الرجال هنا. رحتُ ألوم أمي التي أصرت على مجيئي إلى البلدة بدلاً من ذهابي إلى العاصمة، ظنّاً مني أن الإسرائيليين يطاردون الرجال. ها أنا إذاً أكاد أعود مجدداً إلى المعتقل الذي لم يمض على خروجي منه سوى سويعات فاتنات بطعم الحرية. فجأة تعالى صوت من مئذنة البلدة: بسم الله الرحمن الرحيم، إنا لله و إنا إليه راجعون بمزيد من الأسى واللوعة ننعي إليكم المأسوف على شبابه المرحوم: شفيق محمد وهبي. ماذا؟! أعرفُ هذا الاسم؟! أعرف هذا الميت؟ّ إنه أبي، توفاه الله البارحة في أستراليا بعد صراع طويل مع المرض العضال والأحلام المكسورة، وها هم رجال العائلة في بيروت لاستقبال جثمانه. فيما الجميع يخفي عني النبأ كي لا يعكر صفو فرحتي بتحرري. هكذا سمعت خبر أبي؟ وهكذا استغرقت في بكاء شديد حار حزناً عليه، وربما أكثر حزناً على الحلم الذي ظل يسكنني ويترعرع في داخلي ويكبر أملاً بحلول يوم ألقاه فيه ويلقاني. فجأة وبلا مقدمات خسرتُه وخسرتُ حلمَ لقائه. وفاةُ رجل وراء المحيط غيرت مجرى حياتي. سقطتْ نهائياً فكرة الهجرة ذات يوم إلى أستراليا للقائه والعيش في كنفه ولو قليلاً. دارت الأيام وعشنا المزيد من الحروب والمحن ورحت بالوعي حيناً وباللاوعي أحياناً أبحثُ عن أب بديل، تارةً في الحزب وطوراً في أصدقاء كانوا أكبر مني سناً أو في شعراء احتضنوني وفتحوا لي الأبواب واسعة إلى عالم الكتابة والصحافة كما فعل شوقي أبي شقرا في «النهار»، ومرات في قادة مثل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كانت تسعدني منه عبارة:»يا ابني» التي لم أسمعها يوماً من والدي. المراهق الذي كنته فرحاً بغياب السلطة الأبوية، صار يختزن اللوعة والأسى لأنه عاش بلا أب، بلا سقف يظلل عمره وتجاربه، ورحت في رحلة بحثي عن آباء بديلين أرتكب الهفوات والأخطاء على الملأ و»أتعلم من كيسي» كما يُقال فلا مجرب أسأله عوضاً عن طبيب ولا من حكيم يهبني نصيحة ولو مقابل جمل. تجاوزت الأربعين وبقيت طفلاً يبحث عن أبيه في وطن تكثر أمهاته «الحنونات» لكني أخاله مثلي هشاً طرياً سريع العطب لأنه بلا أب يلقي رأسه على كتفه لحظة المصاعب والملمات. صرت أباً وبقيت طفلاً يبحث عن أبيه.