هذه الجردة للزمان، تتناول العمر الذي يمر كقطار سريع، يتوقف أثناء رحلته في محطات عديدة، فينزل منه ركاب، ويصعد آخرون، والقطار يجري... وأنا ما زلت راكباً لم أنزل منه منذ أن صعدت إليه.. لم أصعد بل هي أمي التي وضعتني فيه، ودّعتني ورحلت وأنا ما زلت أسيرُ... وما زلت أيضاً أسيراً فيه. وإنني اليوم، في هذه الساعة من هذا اليوم من هذا الشهر من هذا العام من هذا الدهر، أتأمّل في ذاتي وفي هذا الزمان، وأحاول أن أسجل ما يشبه سجلاً للأفراح والأحزان، فيطوي هذا السجل ما انقضى من رحلة العمر كطيّ الفهرست للكتاب.. يضع لها العناوين ويشير إلى الأبعاد... وربما أخذه النظر إلى ما هو أعمق من العنوان، أو المشهد.. إلى ما يشكل أصل الحياة، وجوهر التأمل. فما معنى أن أكون أنا ذاتي، على سبيل المثال، قد ولدت في ليلة عاصفة من ليالي الثلوج الجبلية، في الجنوب اللبناني، في فجر يوم الاثنين من تشرين الأول من العام أربعة وأربعين وتسعمائة وألف؟ وما معنى أن تكون أمي هي آمنة بالذات ابنة الشيخ زين العابدين، وأبي هو عليّ، الفتى اليتيم الفقير، ولماذا سميت محمداً؟ وما هي المقادير التي بدأت برسم مصائري على هذه الصورة؟... لست إذن، ومن البداية، متروكاً لاختياري... أنا صورة تتحرك في مرآة الله، بل أنا ذرة من غبار الخليفة... وليكن. ألمِثل هذا بدأت مذ بدأ الوعي عندي يتكون، والأسئلة تصعد من قلبي الصغير إلى عيني، ويدور بها رأسي، أنظر في سماء الكون الصافية في ليالي الصيف الجنوبية، وألاحظ على قبتها حركة النجوم والقمر؟ ألمثل هذا بدأت من صغري، أجلس وحدي على مفارق الفصول، كطائر صغير، أو كذئب صغير، وألاحظ عصف الرياح الشتوية، ولسع الزمهرير، ثم تفتح البراعم والأشجار، المروية بالمطر، ثم ركض الغيوم على الأفق كأنها بهلوان كبير، ثم هدأت آب... وسكون الكون... يليه انفراط الأشجاربأوراقها الصفراء، على التراب المتشقق للحقول؟. ألمثل هذا، وباكراً جداً... وجدت ضالتي في شعراء التأمل والحكمة، وظهرت وأنا في الثانية عشرة من عمري، على صورة رجل كبير، شيخ يحمل سبحة، ولكن مظهره هذا ما كان ليُخفي زرقة عينيه الصغيرتين القلقتين كأنهما حبتا زئبق رجراج، في وجهٍ مستدير أبيض.. لكن الجبين عليه غضون مبكرة...؟ لقد استهواني فيلسوف المعرة الأعمى، ولأعترف، من صغر سني وحملني باكراً هم الأسئلة الكبيرة الحارقة. فحفظت جملة من أشعاره، وتشربتها: «غير مجد في ملتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنم شادِ» إلى آخر القصيدة: «نبيّ من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع» إلى آخر القصيدة التي قالها في وداع بغداد. قران المشتري زحلاً يرجّى لايقاظ النواظر من كراها تقضي الناس جيلاً بعد جيل وخلفت النجوم كما تراها». إلى آخر هذه القصية الملعونة: «رويدك قد خدعت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء» إلى آخر هذه القصيدة المتهكمة الهاتكة. وتشربت باكراً جملة أشعار أعمى المعرة وحكيمها، كاسفنجة، لقد فلعت بي فعلاً وجودياً باكراً وقادتني إلى تحميل عقلي الصغير أكثر مما يحمل... سيما أنهم كانوا في قريتي، ينادونني من صِغَر سنّي بالشيخ، لا لأنني لبست العمة وحملت السبحة وتمشيخت (على مافعل طه حسين)، بل لأنني سليل عائلة من المشايخ، نشأت في كنفهم، وأشربت علومهم وسلوكهم وتُقاهم وأساطيرهم أيضاً. فقد كان جدي (رحمه الله) شيخ القرية وطبيبها وعرّافها، يستقبل الولادات في المهد ويودّع الموتى إلى القبر، ويرافق أحياء القرية في أعمارهم بين بين... وهكذا ورثت مناخ المشيخة عن جدي... لكن، في قلبي، كانت تنبت نبتة غريبة جميلة، سامة. وذات عطر خاص، ولست أدري ما اسمها، وهي كناية عن ايمان موروث، وشك قاتل... شك ملعون. كنت دائم الأسئلة: كيف؟ ولماذا؟ من أنا؟ إلى أين؟.... وكانت تقلقني الولادات الجديدة، وتغيرات الفصول. وأكثر ما يقلقني هو الموت. بالطبع وقعت في الحب منذ صغر سني، وعرفت المتعة واللوعة... وكتبت فيما بعد أن الحب واقع في صدر الإنسان، لأن له عينين... «أصل الشقاء النظر» وأن التأمل، على الرغم من متعته التي لا تحد، هو مصدر شقاء لا يحد، بدوره. ولكن... ليس هذا ما أرغب في البوح به الآن. إنني مشغول هنا، في هذه الساعة من هذا اليوم من هذا العام من هذا الدهر، بسؤال آخر، أرّقني ليلة أمس مع نهايات العام، وما زال يؤرقني حتى هذه اللحظة، وهو: إلى أين يمشي بي القطار؟.. وكيف؟. حسناً.. قد أوفّق إلى الإجابة... وقد لا أستطيع. قد أقول افتراضاً إنني مجرّد راكب عابر في قطار سريع هو قطار الحياة. وإنني إن لم أنزل في محطة أسمّيها «محطة الستين» فإنني لا محالة نازل في محطة السبعين أو الثمانين.. أو التسعين. مع شكلي في التسعين وفي الثمانين أيضاً وحتى في السبعين. لديّ الإحساس بأنني صرت على قاب قوسين أو أدنى من مغارة الذئب، حيث سيقذف بي في جوفيها، سيقذف بي حارس القطار... ولن يكون في استطاعتي، ساعتئذ، أن ألتفت إلى الوراء، أو أقول الوداع. وتختلط في رأسي، وأنا أتأمل بعيني المتعبتين، كرّ المشاهد، زوغان الأشجار والسهول والجبال، مروري السريع بالمنازل، والقرى والمدن، قطع الفيافي والقفار... تختلط في رأسي جملة أفكار وأحزان ووجد، وأول ما يحضرني بيت «زهير» الشهير في السأم. «سئمت تكاليف الحياة...» ولكنه سأم طول العيش.. أما سأمي فليس سأماً زمانياً يمتد أفقياً مع امتداد رحلة القطار. إن سأمي قديم. سأمي سأم الوجود. إن سأمي مرّ، سأمي سأم الذي يتأمل... لذا، أرى إلى جانبي، صلاح عبدالصبور، وهو يحدّق فيّ بعينيه الواسعتين المفتوحتين على عذاب الوجود.. وأسمعه يُسِرُّ في أذني ما يلي: «سأم نفخ الأراجيل سأم دبيب فخذ امرأة ما بين إليتي رجل لا طعم للندم لا عمق للألم...». .... فماذا بقي في كفّي، أو في قبضتي، من حزم الحياة، في رحلتي العجيبة هذه؟ أفتح كفي.. على.. لا شيء. إنها حزم من ضوء أو حزم من هواء. أفتح صدري على كينونة القدم. وأسأل نفسي: هل ذكرت ما أنا فيه؟ هل كتبت؟. نعم. عشت. أحببت. تألمت. فكرت تألمت. كتبت هذا الذي لا اسم له. تألمت. «يأتي من جهة البحر ومن جهة الصحراء طفل بدم أبيض بقنابل ضوء فوسفورية بحمام أو بطباشير ويدوّن فوق اللاشيء هواجسه: لا شيء». أسأل نفسي أيضاً: هل أنسجم في كينونتي الرمادية هذه، مع جملة العهد القديم، باطل الأباطيل... كل شيء باطل أم أنسجم مع آية القرآن الكريم {... كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}.. وأنا لم يغادرني هذا الحس الرمادي، بالنهايات والعدم، في أية لحظة من لحظات حياتي المتحركة مع عجلات القطار. مع كل بداية من البدايات، مع كل مغامرة، كل حب، كل عمل، كل كتابة، كانت تربض على صدري طيور الرحيل... وفي أصابعي الخسارة: «سأموت وحيداً في هذا العالم فوق بساط من طيش الأفلاك وكمثل غريق في بحر لا ساحل فيه أو مركب أسأل نفسي: هل أكتب أم لا أكتب؟ ما دام كتاب الله الأول محفوظاً في اللوح المنزل من يقدر أن يكتب حرفاً أو يمحو؟ لكأن الدهر سجل لم تولد فيه الكلمات» ........ ....... ينتابني أحياناً شعور بأن محطة العام الذي انقضى، أجمل وأغنى من المحطات السابقة. هل التوغل في الرحلة، والتوغل في العمر، زادني جنوناً ويأساً أم حكمة؟ الطائر الواقف على غصن الشجرة، يغنّي أم ينوح؟ وهذه الدموع.. نعم هذه الدموع المترقرقة الآن بين جفني، هي فرحي أم هي غذابي؟. العالم من حولي ما شأنه؟ أيموت أم يولد؟ أيتراكم فيه يأس المعذبين والمحرومين والمشردين والمرضى بلا دواء والجوع بلا طعام والتائهين على أرصفة الشوارع بلا غطاء... أم تنمو نبتة الأمل على خفاء وخفر، كما تنبت عشبة في جدار خَرِب، أو كما تنبت زهرة في صخرة؟.. أسأل نفسي هذه الأسئلة الآن، مع النهايات، وتختلط الأجوبة في صدري. أقول أدري ولا أدري. أقول أنا حائر في هذه الخليقة.. حائر في أمري وحائر في أمور من حولي من الأهل والأصدقاء، ومن أحوال لعالم المنقولة إلى بيوتنا وغرف نومنا على شاشات مضيئة وملونة. صحيح أننا نعيش في عالم أناشيده قليلة، والموسيقى فيه والشعر، مقهوران وتقهرهما آلة الحرب.. وجه بوش بجلد شارون يقتل في كل طلة صباح، البهجة في النفوس. وجه بن لادن بجلد الزوابري وعيني الزرقاوي، يستدرج الذئاب إلى مخادع أطفالنا ونسائنا. ماذا نعمل يا الله، بهذا الخوف الهائل، بهذا السمّ المتغلغل في الفرات ودجلة، ماذا نفعل بارتجاف الصحراء، ماذا نفعل بعذاب المدن، ببغداد المريضة، ببيروت المتوترة كأسلاك البرق؟ بالرياض التي تدفع عنها الوحش، بجمال عينيها، وعمق أحلامها؟ ماذا نفعل بقاهرة المعز حتى لا تصبح مقهورة؟ بدمشق الياسمين لكي يبقى عليها الزهر الأبيض؟ ثم أسأل نفسي أيضاً: من أنا؟ القطار الذي يسير بي وينتقل بي بين أقاليم الليل والنهار، ينفث دخانه في الهواء، ويطلق صفارته في فضاء عال. تبدأ القصة في جلوس المرأة الجميلة على مقعد أمامي. تمسك الجميلة بيدها كتاباً بالانجليزية تقرأ فيه.. تنظر إليّ خلسة بطرف عينها السوداء الواسعة، بين الفينة والفنية. أحب هذه المرأة. أحب هذا الغموض في عينيها. أحب نصف وجهها الذي يحجبه الكتاب. - هل تسمحين سيدتي بأن أعرف إلى أين تذهبين؟ - أنا ذاهبة إلى هناك - هل تسمحين لي بقبلة عابرة. قبلة واحدة فقط ثم نفترق؟ المرأة الغامضة طواها الليل في القطار. أغمضت جفني ودخلت في نوم قلق.. تقدمت منها وقبلتها قبلة واحدة. ما نعت قليلاً، ثم أذكر أنني من بعد ذلك قبلتها. كانت قبلة الحياة. كان ذلك في المنام. استيقظت من الصباح، والمرأة أمامي جالسة وهي في نصف إغماضة كفجر بين الليل والنهار. قلت لها: قبلتك لا تنسى. تزوجنا، ورزقنا بأربع بنات وصبي واحد.... القطار يسير... نمت وصحوت.. تشاجرت وأحببت وتعذّبت كثيراً.. وفرحت ويئست وتفكرت في هذا العالم. ثم كان ليل وكان نهار... وكانت إحداثيات الليل تدخل في إحداثيات النهار.. و يتواصل الحلم باليقظة... وهكذا كانت عجلات القطار تدور.. حتى كأن المسافة مطوية في منديل. وحين نودي عليّ في المحطة الأخيرة. نزلت وحدي.. ثم سرت في الشارع الطويل، واضعاً يديّ في جيوبي.. والرياح تخفق في ثيابي وأطراف بنطالي.. بدأت أصفر لحناً قديماً.. ولم يكن معي أحد.