صَباَحُهُمْ منتصف اللَّيل، وهم (غُلْمةٌ في سن الثالثة عشرة).. لم تكن أنواع (الشّبّيحات) قد تسربت إلى أذهانهم، بل ولم يكونوا قد أدركوا بعد أنّ مفهوم (الحاكمية) اغتصاب للإنسانية.. جَهَّزَتْهُمْ الأمَّهات بزادِ الرحيل: قرص (حالي) من الذرة.. حزام يشدُّ به عرض الرجولة وشفرة متعددة الاستخدامات.. غترة بيضاء من قماش (البَفْت) يتصمَّدُ بها..عَطِيفة ذات أغراض متعددة.. لفَّة من الكتب الصفراء يحفظ منها ما استطاعه تحت كل ظل يعجبه ويرتاح فيه قليلاً من عناء صعود الجبال، كان أشدَّها اصفراراً كتابٌ يدعى (زاد المستقنع) يجب عليه تسميعه في معهد (أبها) العلمي.. الْتَقَوا منتصف الليل (صباحهم الخاص) على قمة جبل (الشّرفة) أعلى جبال (ألمع)، منطلقين بأحمالهم الصفراء تارة يغنون وأخرى يحفظون شيئاً من كنوز كتبهم ويتذاكرون فيها ويلحِّنُونها تسهيلاً للحفظ.. عبْرَ جبال (امَّقافِي) المملة يصلون قرية (شَوْكاَن) بلدة كانت متشبثة بعراقة وشِيمٍ وقيم نادرة (ولعل هذا يعود إلى أزديّتها وعلاقتها بجبال امْقرون وصعوبتها ومناعتها على الوافدين، إذ لمْ تكنْ مهيَّأةً آنذاكمْ للتصحُّر) كانت إطلالتهم عليها وقت صبح الفلاحين والواردات والحاطبات من النساء، هذا الصبح هو: ظهور (نجم امَّكْتُوف و(امْسَبْعة) و(سهيل امْيماني)، ساعتهم السماء، وشاشاتهم الأرض، وطاقاتهم القيَم.. على (رَكِيَّة) شَوْكان أكلوا أرغفة أمهاتهم، وزادوا ما وجدوه مع أهل القرية، وبللوا عروقهم بشربة (امْرَكِيَّة) التي لم تمسسها يد الكيمياء ولم تطأها الأقدام المجهولة، بادئين (الشَّدَّةَ) الثانية من الرحيل إلى التعليم صعوداً باتجاه جبال (امْقُرُون) العجيبة.. في طريقهم هناك كان يغترب قبرُ أحدِ قادة الأتراك وحيداً في قمة جبل (امَّحَزَّم).. أحد الفتية (جبلِيْ) تذكّرَ بغربة القائد هنا (غربة قبر امرئ القيس هناك) فكتب بيتاً من محفوظاته ينسب إلى امرئ القيس على قبر القائد التركي وحفر الكتابة بطرف شفرته: أيا جارتا إنا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نسيبُ كلما أوغلوا في غابات (امْقرون) كثرتْ من حولهم الكائنات من أفاع وقرود وذئاب وضباع إلخ، وزادت بينهم وبينها العلاقة حتى صاروا يتفننون في طرق إخافتها ومبادلتها الحركات ببهلوانيات ترهبها وتبعدها عنهم أو تغريها بالتفاعل معهم.. أعلى قمة هناك (قُمَر ابْرِ كليب)،حيثُ يعبرون بين قمَّتين على خشب عرعر يبعدُ عن الأرض عشرات الأمتار.. بِرْكة الماء تختزن مياه الأمطار يشرب منها المارّة، واحتفلوا بوصولهم إياها.. أربعٌ من الصبايا جاهزات بأحمالهنَّ من الحطب للانطلاق به إلى قرية (السودة).. حيوانٌ أسود مرقَّش بالأبيض أغرّ الجبين أمام الكل يتمطى كأنه يحثّهم على سرعة الرحيل عن الماء.. خبرة (جبلي) محصورة في الذئاب والضباع ويعرف كيف يخيفها، استخدم تجربته غير الموفقة في إخافة كائنه الجديد، لكن هذا اختلف عن غيره: زفَرَ زفرةً اهتزَّتْ لها القلوبُ وطال صدى زفرته متردداً في الشعاب.. ثُمَّ انْتَبَرَ جسْمُهُ حتى زادَ حجمُهُ عن ذي قبل.. وهنا شعرتْ (زاهرة بنت عبدالله) بالخطر، ووبختْ وأسكتتْ (جبلي) الجاهل بما أمامه وبالموقف.. حركةٌ سريعة مفاجئة من (زاهرة): وقفتْ مواجهةً (النمر العربي المُنْتَبِرَ بكل قواه والجاهز للقفز على جبلي) ثمَّ رفعتْ ثوبها كلِّياًّ وثبتَتْ أمامه.. غرس عينين رصاصيتين في ما رآه، ثم تناقصت قوة نظرته ودرجة انْتِباَرِه تدريجياً واسترخى ثمَّ استدار متجهاً صوب الوجه الآخر من الجبل دون أن يعيد إلى الفتية نظرة واحدة وغابَ عنهم هناك.. في طريقهم نحو السودة (أعلى قمة في جزيرة العرب): جبلي: يا زاهرة، ماذا فعلت؟ – زاهرة: أنت لا تعرفه! هذا (امْنَمَرْ)، لا يتعامل معه من يجهله.. إنه (أبو فاطمة) كنّاهُ أهلنا بهذا لعزته أمام المرأة، عزَّتُه كقوَّتِه وشراسته.. أهلنا أوصونا كثيراً: إذا رآه الرجل فلْيتَجاهلهُ كأنه غير موجود، وإنْ رأته المرأة فما عليها سوى أن تثبت له أنها أنثى، عندها لا يمكن أن يعتدي عليهما، أبو فاطمة لا يعتدي على البشر ما لم يشعرْ بالخطر.. ازداد الفتية خبرة، وفهموا سبب تسمية (النمر) أبا فاطمة، فهو عزيز النفس عزةَ مكانه، ولم يُعرفْ أنه اعتدى على امرأة.. وصلوا -معاً- (السودة) وبعد ضيفة (زاهرة وأبيها) إياهم بالمقسوم من خبز الحنطة الذّهبية، اتجهوا إلى أبها بكتبهم ليسمعوها مشايخهم المتربصين لمن لا يحفظ متونها بعد حين قرروا العودة إلى ديارهم عن طريق معقل (أبي فاطمة) الذي خَبِرُوا طريقة التعامل معه، ضاغطين خوفهم منه مستعدين لهذا التعامل بالتجاهل: لمْ يجدوا (زاهرةً ولا زاهرات).. بركةُ الماء أثرٌ بعد عين.. رائحة الأرض منتنة نَتَناً غريباً لا يشبه رائحة المكان.. مخيمات الغرباء الصيفية وفنادقهم تزيد المكان نتناً، وتحيله إلى أكوام بشرية لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.. أبو فاطمة حارسٌ على بقايا جثة راعية قد افترسها عكسَ شِيَمِه التي عرفوها.. حاولوا استفزازه فوجدوه لا يزفرُ ولا يَنْتَبِرُ -كما عهدوه-، انتهتْ شيَمُه ولم يبقَ منها سوى بحثه عن أسهل الطرق من حوله ليغادرَ مكانه الأزلي بعدَ تجربته هنا آلافاً من السنين.. الفِتية حتى يومنا هذا يبحثون عن بعثٍ جديد لأبي فاطمة وقيَمِه ولنْ يجدوا، فهم يعلمون أنه في النهاية لا يحب الوسطية: إما عِزة وإما الرحيل..