هؤلاء الذين يقطعون بيقين ما يظنونه بالناس، ماذا نسميهم؟ إنهم يجعلون ظنهم يقيناً ويزعمون أن لظنهم قرائن تحيله عن كونه ظناً، وهي خدعة من خدع العقل لأن القرائن التي يقيمونها شاهداً على كون ما يظنونه يقيناً، هي نفسها ظن، ولا يقوم الظن شاهداً لنفسه، غير أن الشاهد الذي يعولون عليه هو ما يريدونه هم بالناس، وما يريدونه للناس، فشاهدهم لا يعدو كونه أمانيَّ السوء. إنهم يبخلون على الناس حتى بإيراد احتمالات الخيرية فيهم. في العادة، العقل حين يكون محايداً لا يكون شحيحاً، العقل المنحاز هو العقل الشحيح، تتحول أفكاره كلها إلى تكريس للمنع. أخطر ما في هذه المسألة أنها قد تتذرع بالدِّين، إن هؤلاء الناس يريدون تحويل الدين إلى معزز لظنونهم، فهم يستثمرون ما هو يقين مقطوع بصدقه لصالح ما هو ظن غير مقطوع بصدقه. أليس في هذا نوع من أنواع الاستعلاء على الدِّين من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون؟ حين يطوع العقل ما هو خارج عن وظيفته ليكون محكوماً لمراداته، يكون قد انخلع من صفته وتقمص صفةً مستعلية. وظيفة العقل أن يفهم ما يقوله الدين وأن ينظر في مناطاته واشتراطاته وأين يتنزل؟ وأن يكون مع هذا تقياً متحرزاً ناظراً في مدافعة إرادة السوء والانشغال بحظ النفس أو الانتصار للفكرة الشخصية، فإذا لم يفعل هذا فقد جعل نفسه تابعاً للهوى. هل في وسعنا أن نفهم الآن لماذا كان علينا اجتناب كثير من الظن؟ لأن الظن -كما أفهم- مطابق للطبيعة الشحيحة للأنفس، تلك الطبيعة، جذرها الانحياز للذات أو الأثرة وهي قوة معطلة مؤذية تغذي كل صنوف الظلم والاستبداد. نحن لسنا بمعزل عن احتمال الوقوع في الانحياز، حتى في تعاملنا مع الدِّين، قد ننحاز لما تعودنا أو لما نحب أو لما غلب على فهمنا وغيره أصح منه. هذه طبيعة الناس، إنما يبقى الأمر فيما تتوجه إليه النوايا أو الإرادات، هل هي نزيهة محايدة أو منحازة؟ ويسهل الأمر إذا كان متعلقاً بالنفس، ويكون أكثر أهمية وخطورة حين يتوجه إلى الآخرين. هؤلاء الظانون -في العادة- لا يصدرون في رأيهم عن عقل قدر ما هو عن هوى وكراهية وانحياز، فهو موقف مسبق يريد أن يضع يده على الشواهد. إنهم يقطعون بما يرون هم ويأتي المثبت تالياً بشرطهم هم لا بشرط العقل ولا بشرط الحياد في الدليل. الظن لا يجاوز قيمة الوهم، لكن النفس تنحاز إليه بما زُيِّن في قلبها. تجدون الشاهد في القرآن العظيم: «وزُيِّنَ ذلكِ في قلوبكم». إننا أحياناً نبرر مواقفنا من الواقع ومن الناس ونبرر رأينا بإضفاء قيمة اليقين المطلق على ما نفهمه ونراه، وإرادة الحق تعني أن تنقطع نياتنا ابتداءً إلى الله تعالى وأن نحذر ونتحرز ونحن نقول آراءنا في الناس وفي مراتبهم عند ربهم، لكن الملاحظ أن الحنق يريد أن يخطئ في العقوبة والتهمة، لا في العفو وحسن الظن. فسبحان الذي كتب على نفسه الرحمة وجعلها غالبة.