الاستحمار.. مصطلح قرأته لأول مرة في كتاب (النباهة والاستحمار) للمفكر الإيراني علي شريعتي. أصل الكلمة بالطبع معروف، فهي من ذلك الحيوان الطيب الصبور الغافل الذي لا يطمح لأكثر من حزمة برسيم آخر النهار. لا شك أن المصطلح فيه كثير من الجناية المقصودة، لكن يبدو أن المفكر أراد أن يوقظ سبات المستغفلين بكلماته اللاذعة. الإنسان المستحمر عادة ما يكون من ضمن الخمسة والتسعين الذين يفضلون الموت على التفكير بحسب برنارد شو في مقولته الشهيرة: «اثنان بالمئة من الناس يفكرون وثلاثة بالمئة يعتقدون أنهم يفكرون وخمسة وتسعون يفضلون الموت على التفكير». إذن هو لا يفكر ولا يأخذ بأدوات التفكير، فلا يسأل ولا يحاور، كل ما يمكن أن يفعله هو أن يعبأ بقناعات ورؤى الآخرين ثم يظل يرددها بكل وثوقية. والأمر الذي يجعل الآخرين يجرؤون على تعبئته بقناعاتهم هو أنه جامد ثابت لا يتزحزح بتفكيره عما وجد عليه آباءه ومحيطه. لذا يعد فريسة مفضلة لتجار الدعاية ومافيا السياسة وهواة النفوذ والتسلط. فهو في المعادلات السياسية إما جندي مقنع يقاتل ويهاجم ويهجو دون تبصر، أو مكرس ومشرّع للواقع الذي فرضه عليه أحد مردة السياسة! فالساسة يتقاتلون عليه مثلما يتقاتل القراصنة على لؤلوة! فالكل يحاول أن يختطفه ويضمه لقاعدته التي يرتقي من خلالها. فهو عالة على مجتمعه مثلما يكون ذكر النحل عالة على مملكته، فذكر النحل يأكل ويشرب و»يتبطح» ويبدد المخزون القومي الذي تكون بعد عناء العاملات، دون أن يبذل شيئا. والطريف في الأمر أنه ينظر للأمور نظرة مادية بحتة، فيشده الفضول الشديد عندما يرى أحد البشر يتعاطف مع قضية إنسانية ويتطوع من أجلها ويتبرع بجهده أو ماله أو وقته، فيتساءل في نفسه: «ماذا يستفيد هذا المعتوه»؟! فهو معتاد على أن يستلقي بين أدواته المسلية طيلة يومه فإذا ما رأى أحدهم وقد نذر نفسه لقضية إنسانية كبرى، ردد بينه وبين ذاته: «الله لا يشغلنا إلا بطاعته»! وكأنه قد قضى يومه كله في محرابه عابدا متعبدا. إلى هنا ربما يشعر البعض بالحنق إزاءه، لكن في حقيقة الأمر هو على قدر من البساطة يجعل الجميع يتحمسون لمساعدته. فهو يائس، ضعيف الذاكرة، ابن لحظته، يسهل خداعه، تسيطر عليه عقدة النقص التي أدت بالطبع لتكون عقدة الموضة لديه. فهو يرى أن كل جديد جيد وكل قديم سيء. في داخله غيمة من الحزن واليأس وإن بدا على ظاهره السعادة والسرور. يثق بالظاهر وتحتل المؤامرة جزءا من إدراكه. هو في الحقيقة الرقم الذي جعل معادلة العالم كله بهذه الصياغة، لأنه الأكبر والأكثر، لكنه دائما إما مضروب أو مقسوم أو مطروح. ففي كل العصور وعبر كل الأزمنة كرر أخطاءه، عبد الإنسان، وقدس الوهم، وخاف من المفيد، واطمأن للشرير. لدغ من ذات الجحر سبعين مرة ومازال يتأمل أن يخرج ما يسره من ذلك الجحر الكريه. الأهم الآن هو أنه بحاجة إلى من يسأله ويحاوره حتى لا يأتيه آتٍ ويحقنه بما يجعله يطمح آخر النهار لما تبقى من فتات.