حين تتحدث عن التعديات وسرقة المخططات والاتجار بالدين، فستجد من يقول لك: يا أخي اتق الله، إن لحوم العلماء مسمومة! وعندما تتحدث عن الظلم والقهر والاستبداد، فستجد من يقول لك: يا أخي، (خفْ ربك)، لدينا شرع الله وتريد حقوق إنسان ونظام محاماة، وحين تتحدث عن فوضى بعض الأحكام وسلوكيات بعض القضاة، فستجد من يقول لك: يا أخي، راجع نفسك، لدينا كتاب الله وتبحث عن قوانين وأحكام، وعندما تتحدث عن تعطيل القضايا والفساد في حجج الاستحكام، فستجد من يقول لك: يا أخي، عظِّم الشريعة في نفسك! ولو قلت في مجلس من المجالس: الحمد لله لقد أُنشئت هيئة لمكافحة الفساد، فستجد بين الجالسين من يقول لك: يا أخي اتق الله، لدينا شرع الله وتريد هيئةً لمكافحة الفساد! بل إن أحد الأصدقاء أخبرني أنه نصح أحدَهم بأن يشكو عند جمعية حماية المستهلك، فقال له الرجل: أعوذ بالله، لدينا شرع الله وتطلب مني الذهاب إلى جمعية حماية المستهلك! (عاد كنها بتنفعه). لست متأكداً فيما إذا كانت هذه الطريقة في التفكير والبلادة في ربط الأشياء ببعضها هي نوع من أنواع (الاستحمار) الذي تحدث عنه المفكر الإيراني المعروف علي شريعتي في كتابه (النباهة والاستحمار)، حيث ذكر أن الاستحمار ليس إلا تخديراً للأفكار وتزييفاً للأذهان وهو عملية يتم بموجبها تسخير للإنسان كما يُسخَر الحمار – أعزكم الله – مؤكداً أن أي دافع لتحريف الفرد عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية هو دافع استحمار، يقول شريعتي: «إنه لمن سوء الحظ، ألا ندرك ما يُراد بنا، فنُصْرَف عما ينبغي أن نُفكر فيه كأفراد وجماعات، فيصيب غيرنا الهدف، ونحن لا نشعر!»، ويضيف أيضاً: «قد لا يدعوك الاستحمار إلى القبائح والانحرافات أحياناً، بل بالعكس، قد يدعوك إلى المحاسن، ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر أنت بها، وهنا يغفل الإنسان، ويتجه نحو (جمال العمل) ولطافته غافلاً عن الشيء الذي ينبغي أن يَعيَه، وهذا هو الاستحمار من طريق غير مباشر». إننا لو افترضنا أن الحالات التي ذُكرت في بداية المقال هي من أنواع الاستحمار التي ذكرها شريعتي في كتابه آنف الذكر، فإن ذلك يعني أن كثيراً من الفاسدين قد استغلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها من حب للدين واحترام للمتدينين فصرفوهم عن الفساد عندما أوهموهم أن أولئك إنما يسعون دائماً إلى الانتقاص من الدين والتقليل من شأن عباد الله الصالحين، وأن ما من عمل هو أفضل من الذَبِّ عن الدين والانتصار لعباد الله المخلصين وهو قول عظيم من حيث المبدأ بلا شك، فاندفع هؤلاء الطيبون دفاعاً بكل ما يملكون في سبيل خوض حرب لم تحدث والاستعداد لمعركة لن تأتي، بينما يُراقب أولئك الفاسدون الأحداث من بعيد في قصورهم الفخمة ومن على موائدهم العامرة والمملوءة بكل ما هو مسروق ومنهوب ومغصوب سادرين في اقتسام الأراضي والاستيلاء على المخططات والتعدي على الأملاك العامة، وكلما أراد أحدٌ كشفَ فسادهم أو طالب بمحاسبتهم قوبل بالقول الشهير لابن عساكر (رحمه الله): «لحوم العلماء مسمومة»، بينما يُغَض الطرف عن كلام الله تعالى وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تحذر من عواقب الظلم والتعدي والاتجار بالدين والخطر الذي تواجهه الأمة إن هي عملت بشرع بني إسرائيل حيث كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ولست أعرف شيئاً على الأمة أخطر من الدعوة إلى استلاب العقول، أو التحذير من أن الإنسان مهددٌ في معتقده ودينه إن هو استخدم عقله، وشبهتهم في ذلك – فيما أظن – أن العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع، فظنوا في ذلك مانعاً يحول بينهم وبين استخدام عقولهم في معرفة الأحكام واستخلاص النتائج، وهم لا يدرون أن العقل هو مناط التكليف، وأن الإنسان إذا فقد عقله سقط تكليفه، مع الاعتراف أن العقل ليس يمكنه إدراك الحقائق كلها، ولهذا فالقاعدة تقول (إذا صَحَّ النقلُ سلَّم العقلُ)، وإن من الواجب على هؤلاء المساكين الذين يفكرون بهذه الطريقة أن يحمدوا الله أكثر من غيرهم على أن خلقهم موحدين، فلو شاء الله وأوجدهم في مكان آخر لرأيتهم من الذين يزحفون على ركبهم إلى القبور ولرأيتهم من الذين يُطبِّرون رؤوسهم ويتمسحون بالخرفان طلباً للشفاء والعياذ بالله.