باشرت الحكومة البرازيلية الجديدة عملها أمس بإعلان إجراءات اقتصادية تشمل تقليص النفقات العامة، غداة وصفِ الرئيسة المقالَة، ديلما روسيف، إجراء إقصائها ب «الانقلاب». وأقرَّ الرئيس الجديد المؤقت، ميشال تامر، ب «ضيق الوقت» أمامه. لكنه تعهد، لدى تسلُّمه السلطة أمس الأول في قصر بلانالتو الرئاسي، ببذل جهدٍ لإرساء إصلاحات تحتاجها البلاد. وعقد تامر، المنتمي إلى حزب «الحركة البرازيلية الديمقراطية» الكبير «يمين وسط»، اجتماعاً لوزرائه صباح الجمعة، ناشراً على موقع «تويتر» مجموعةً من الصور للمجتمعين. بينما نقلت وسائل إعلام ومصادر تصريحاتٍ لوزير المالية الجديد، إنريكي ميرييس، عن سلسلة إجراءات تستهدف إخراج الاقتصاد من أسوأ انكماشٍ يشهده منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وأنهى تصويتٌ تاريخي في مجلس الشيوخ الخميس مهام الرئيسة روسيف التي تحكم منذ عام 2011. وبات نائبها تامر ذو الأصول اللبنانية رئيساً بعد زلزالٍ سياسي أنهى 13 عاماً من حكم اليسار في أكبر دول أمريكا اللاتينية. وصوَّت أعضاء «الشيوخ» بغالبية 55 صوتاً من أصل 81 لصالح بدء إجراء إقالة الرئيسة المتهمة بالتلاعب بأموال الدولة. واستُبعِدَت روسيف (68 عاماً) تلقائيّاً من السلطة لمدةٍ أقصاها 180 يوماً، في انتظار صدور حكم نهائي من قِبَل «الشيوخ». ويُفترَض أن يُصوِّت المجلس بغالبية الثلثين (54 صوتاً من أصل 81) من أجل إقالة نهائية. وبعد شغلِ منصبه الجديد؛ وجَّه الرئيس المؤقت خطاباً إلى الأمة وهو محاطٌ بحكومته الليبرالية المهتمة بالإصلاح الاقتصادي. واعتبر استعادة مصداقية البلاد أمراً ملحَّاً على الساحة الوطنية والدولية. وشكَّل تامر، وهو محامٍ متخصص في الدستور وسياسي محنك ومتكتم، حكومته منذ ظهر الخميس مع خطةٍ للنهوض الاقتصادي تشمل اقتطاعات في الميزانية وتحفيز استثمارات لوقف التضخم المرتفع وتزايد البطالة. وعيَّن تامر الحاكم السابق للمصرف المركزي، إنريكي ميرييس، وزيراً للمالية، والحاكم السابق لولاية ساو باولو، خوسيه سيرا، وزيراً للخارجية. لكن الانتقادات انهالت على التشكيلة الوزارية المؤلفة من 24 وزيراً، خصوصاً لعدم اشتمالها على نساء أو تنوع عرقي. بينما رحبت أسواق المال بتعيين ميرييس الذي نجح على رأس البنك المركزي في احتواء التضخم وتقويم الاقتصاد، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بين عامي 2003 و2010. ووفقاً لوسائل الإعلام؛ أفاد وزير المالية الجديد بأن أولويته هي خفض النفقات الحكومية وضبطها. لكنه تعهد بالإبقاء على تمويل برامج اجتماعية للمحتاجين تشكِّل الإرث الأكثر شعبية للحكومة المنتهية ولايتها. وصرَّح الوزير «البرامج الاجتماعية التي لا تمثل نسباً صغيرة في الموازنة لكنها أساسية لهؤلاء الذين يحتاجون إليها؛ ستظل قائمة». وخلال عام 2015؛ تراجَع إجمالي الناتج الداخلي البرازيلي بنسبة 3.8%. وتبدو الصعوبات جمَّة بالنسبة إلى تامر (75 عاماً)، إذ يبدو مُطالَباً بالتعامل مع معارضة يسارية شرسة وحلِّ مشكلات أضرَّت بروسيف، ومنها التدهور الاقتصادي. علاوةً على ذلك؛ يخضع عددٌ من وزرائه وحلفائه للمراقبة القضائية في قضايا فساد، ما يُضعِف مصداقيته. وسيكون الرئيس الجديد تحت مراقبة دقيقة بسبب وصوله إلى سدة الرئاسة بلا صناديق اقتراع، خصوصاً مع عدم تمتُّعه بشعبية واسعة. وأظهر استطلاع أخير للرأي حصوله في حال تنظيم الانتخابات على أصوات 1 إلى 2% من الناخبين. وفي إطار مهامه الجديدة؛ سيفتتح السياسي لبنانيّ الأصل دورة الألعاب الأوليمبية التي تستضيفها ريو دي جانيرو من 5 إلى 21 أغسطس المقبل وتُعدُّ حدثاً بالغ الأهمية بالنسبة إلى المواطنين. ووعد وزير الرياضة الجديد، ليوناردو باتشياني، ب «نجاح باهر» للدورة المرتقبة. وأعلن أن الأشغال للألعاب الأوليمبية تتقدم بشكل جيد وتحترم البرنامج المحدد «وأنا على قناعة بأننا لن نواجه أي مشكلة». واعتبر باتشياني (36 عاماً) أن «الألعاب الأوليمبية ستحقق نجاحاً باهراً وستعزز بالتأكيد صورة البلاد داخل الأسرة الدولية وستترك إرثاً كبيراً يستفيد منه السكان». في المقابل؛ دعت روسيف الخميس إلى «التعبئة ضد الانقلاب»، في أول كلمةٍ لها بعد التصويت على إقالتها. وخاطبت مواطنيها قائلةً «أدعو كل البرازيليين المعارضين للانقلاب، من أي حزبٍ كانوا، إلى البقاء في تعبئة وموحدين ومسالمين»، معتبرةً أن «الخطر لا يحدق فقط بولايتي (الثانية) بل أيضاً باحترام أصوات الناخبين وسيادة الشعب والدستور». وكرَّرت «المرأة الحديدية»، كما يصفها الإعلام، القول إنها ضحية «انقلاب» و»مهزلة قضائية وسياسية». وتتهم المعارضة اليمينية روسيف بارتكاب «جريمة مسؤولية» تمثَّلت في «التلاعب عمداً بمالية الدولة لإخفاء حجم العجز في 2014» عندما أعيد انتخابها في اقتراعٍ كان موضع جدل. لكنها تدافع عن نفسها، وتستدل بلجوء جميع أسلافها إلى «هذه الأساليب من دون أن يتعرض أحدٌ لهم». وعن خلفِها؛ وصفت روسيف، الناشطة السابقة ضد الحكم الديكتاتوري بين عامي 1964 و1985، نائبها تامر ب «الخائن». واتهمته بإعداد «انقلاب دستوري» سرَّع سقوطها بعدما سحب حزبه من الائتلاف الحاكم بقيادة اليسار في مارس الماضي. ووفق استطلاعات؛ لا تتجاوز شعبية الرئيسة المقالة حالياً 10% في خضم فضيحة فساد متعلقة بمجموعة «بتروبراس» النفطية الحكومية. وتطول الفضيحة جزءاً لا بأس به من النخبة السياسية، علماً أن اسم تامر ورد فيها. وكشف تحقيقٌ شبكةً ضخمةً من الرشاوى دفعتها مجموعات بناء إلى «بتروبراس» وسياسيين لانتزاع استدراجات عروض. وسُمِحَ لروسيف المكوث في مقر إقامتها الرسمي في الفورادا مع والدتها خلال فترة محاكمتها، وستحتفظ براتبها وبحراسها الشخصيين. وقبل الاعتكاف في منزلها حيث تبدأ إعداد دفاعها؛ صرَّحت قائلةً «أشعر بألم الظلم». ويلاحظ خبراء أن وهج النجمة الحمراء، رمز حزب العمال الذي ينتمي لولا دا سيلفا وروسيف إليه، أخذ يبهت لارتباطه باتهامات فساد، لكنه لم ينطفئ بعد. وظلَّ «العمال» في السلطة منذ انتخابه قبل 13 عاماً، وهي أطول ولاية لحزب حاكم منذ سقوط الديكتاتورية. وتبدو فرص عودة روسيف إلى السلطة معدومة. لذا؛ قد تستمر الحكومة الجديدة في أعمالها حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2018. ويمكن حينها لأصحاب النجمة الحمراء تقديم مرشحٍ عنهم. ولفت أستاذ العلوم السياسية في جامعة بارانا، أدريانو كوداتو، إلى «امتلاك الحزب أفضل شبكة علاقات حزبية مع ممثليه في 98 % من المدن». واستبعد انتهاء «هذه القوة التنظيمية الكبيرة بين ليلة وضحاها». لكنه رأى أن «مجزرة انتخابية» ستلحق بالحزب خلال الانتخابات البلدية المقررة في أكتوبر المقبل «لأن سمعته مرتبطة حالياً بالفساد، وهو يظهَر في الصحافة منذ أشهر كأعظم شرور السياسة». ويعتبر كوداتو الحزبَ ضحيةً لأخطائه مثل مشكلاته المتعلقة بالفساد ونجاحاته على حدٍّ سواء. ومن هذه النجاحات منح حصص للسود في الجامعات «ما غذَّى عنصرية طبقية ضد الحكومة». ولاحظ كوداتو تخلِّي الطبقة الوسطى «التي كانت تدعم الحزب لتنديده بالفساد» عن دعمها له «كون سياسته أفادت الفقير والغني». وضرب مثالاً على ذلك بقوله «أنا كأستاذ أدفع ضريبة دخل تبلغ 27.5 % (…) وإذا كنت صاحب رأسمال وأملك 15 شقة مؤجرة لن أدفع أكثر من 8 %». وكانت التظاهرات الضخمة التي نزلت في يونيو 2013 ضد كلفة استضافة كأس العالم جرس إنذارٍ حول توتر سائد لم يؤخذ بعين الاعتبار. وشدَّد كوداتو «كان ينبغي على حزب العمال أن يقوم على الأقل بنقد ذاتي». ويوصَف ب «القليل» عدد أعضاء الحزب الذين يطالبون ب «إعادة تأسيس». وأحد هؤلاء تارسو جنرو (69 عاماً)، وهو وزير سابق في حكومة لولا دا سيلفا وحاكمٌ لولاية ريو غراندي دو سول «جنوب». وأقرَّ جنرو ب «خسارة الحزب فرصة إعادة التأسيس خلال مؤتمره الأخير (يونيو 2015) حين كانت الغلبة للخيار السياسي بالبقاء في السلطة بأي ثمن». وتُطرَح الآن تساؤلاتٌ حول قدرة لولا دا سيلفا، رمز اليسار في أمريكا اللاتينية، على إنقاذ الحزب. ومع حصوله على 20 % من نيات التصويت؛ يتصدر الرئيس الأسبق استطلاعات الرأي للانتخابات الرئاسية المقبلة في بلاده، ويبقى فزاعةً لليمين، لكنه يواجه أيضاً رفضاً كبيراً. وشكَّك جنرو في نية دا سيلفا الترشح أو «إذا ما كان يملك الشروط القانونية استناداً إلى قرار النيابة العامة التحقيق معه» في إطار فضيحة «بتروبراس». ورأى جنرو أن «الاضطهاد» الذي تعرض له دا سيلفا كان الهدف منه «سحبه من السباق الرئاسي المقبل»، معتبراً أن على «العمال» في الوقت الحالي إعادة تنظيم اليسار الموحد «لتقديم برنامج بديل عن الإصلاحات النيوليبرالية التي يريد تامر القيام بها». وفي هذا الإطار؛ يشير فابيو ماليني من جامعة بارانا الاتحادية إلى «إمكانية إعادة حزب العمال بناء نفسه لأنه يملك أساساً متيناً»، مستدركاً «لكن عليه تجديد نفسه مستفيداً من مشروعه السياسي الذي انتشل 40 مليون مواطن من البؤس». وعدد السكان في البرازيل يصل إلى نحو 200 مليون نسمة.