لعل عصر الثورة المعلوماتية الذي نعيشه واقعاً غيَّر كثيراً فينا بدءاً من توثيق اللحظات، ومروراً بمشاركتها للآخرين، حتى أن الشعرة التي تفصل بين ما يليق مشاركته، وبين ما لا يليق تكاد تكون شفّافة أحياناً، فيلتبس علينا الأمران معاً. إن لهاث بعضنا نحو الشُّهرة والانتشار، وسهولة وسرعة الوصول للكاميرات -أحد أهم مكونات هواتفنا الذكية-، ووجود من يتابع ولا يجد غضاضة في أن يقضي ربع يومه أو نصفه أو ثلثه في متابعة ما يأكل الآخرون وما يلبسون ومما يتذمرون؛ هذه العوامل كلها يمكن تفهمها كجزء من ثقافة السائد والسلوكيات التي قد يكون ضررها و نفعها حكراً على أصحابها. لكن الذي يصعب تفهمه هو الزج بأطفال أبرياء ليكونوا كالدمى يتم التلاعب بها وتحريكها لجذب أكبر قدر من المتابعين. إن تجنيد الأطفال واستخدامهم كوسيلة للانتشار هو أمر يثير كثير من الاستياء، لا يهم ما تريد إيصاله ولا تهم رسالتك، فالغاية هي أن تحقق الانتشار عن طريق مقطع عنف أو رقص أو هزل أو تهريج تسجله مع أقرب طفل يمر عليك. والملاحظ لأغلب تلك المقاطع يلمح عنصرين رئيسين؛ الجمال والعنف. يتم تمرير فكرة التركيز على الجمال. لا يهم ما يفعل الطفل أو الطفلة حتى لو كان سلوكه خاطئاً، ولا يهم ما يقوله حتى لو كان كلامه بذيئاً، المهم أن يكون الطفل حسن الشكل والهيئة. ولذلك لا نستغرب عندما نرى طفلة «من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي» تضع المساحيق وترتدي الكعب العالي وتتمايل بحركات غنج ودلال عند التقاط صورة لها. أتذكر أنني عندما كنت غائبة عن البلاد لفترة، لاحظت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن معظم الأطفال في مجتمعنا قد أصبحوا غاية في الجمال وكنت أتساءل ماذا حدث لأصحاب الشعر الأجعد والمنكوش، و الأسنان المكسرة، و البشرة المتبقعة من آثار الشمس، والجباه التي تعلوها وسوم وبصمات الشقاوة! لكن ما أدركته لاحقاً أن هؤلاء – ذوي الجمال -هم العيِّنة المنتقاة ليتم تصويرها في كل وقت وحين، لكن الأطفال العاديين ومتواضعي الجمال تتجاوزهم عدسات تخليد اللحظات وتمضي دونهم كاميرات التوثيق. الملمح الآخر هو استخدام العنف سواء كان لفظياً أو معنوياً أو جسدياً تجاه الأطفال أو تلقينهم مايريد ذووهم أن يقولونه من سب أو شتم، وكأن في تلك السلوكيات ما يبهج أو يثير في النفس الطرافة والضحك! ثم إذا أذن مؤذن المحاسبة تغنى بعضهم بديباجة أننا شعب مستهدف وبأن منظمات حقوق الإنسان تتربص بنا وتنتظر الزلة منا لتنتزع أطفالنا من أحضاننا! تخبرني إحداهن أنها رأت أماً في مكان عام توبخ طفلتها التي لم تحفظ العبارة التي لقنتها لها لتقولها على « السنابشات»، في حين أن الطفلة كانت تريد أن تلعب ولم تلق بالاً أو تركز في ترديد العبارة التي أرادت والدتها أن تبثها لمتابعيها. إن استخدام الأطفال كأدوات أو عتبات يرقى بها بعضهم لبرج النجومية الهش فيه تعدٍ على حقوقهم، وانتهاك ليس للبراءة والعفوية لمرحلة عمرية لن تتكرر وهي ركيزة وحجر أساس لما يأتي بعدها في الحياة فحسب، بل حتى انتهاك لحقهم الفطري في الخصوصية ولخياراتهم في الحياة، فماذا لو كان ما يجري رغماً عنهم؟ وماذا لو كبر أحدهم ولم يكن فخوراً بما انتشر عنه؟ وماذا لو أمسى أحدهم يكره أن تكون صوره منتشرة في كل وادٍ وفج عميق! وإلى أن تُسَن القوانين التي تردع أولياء الأمور من المتاجرة بصور وظهور فلذات أكبادهم أو على الأقل تقنينها، نحن كمجتمع ومتابعين نحمل مسؤولية تجاه هذه الممارسات لأننا وببساطة لو لم نتابعهم لما استمروا بالظهور وملأوا الدنيا وشغلوا الناس، لكن متابعتنا لهم هي جزء من تعزيز مايفعلونه والتوكيد على أنه سائغ ومقبول. إن لكل بضاعة مشترياً، فماذا لو وجد المتاجرون بظهور أطفالهم تجارتهم ردت إليهم، فهل ستراهم يستمرون؟