كثرت في الآونة الأخيرة حالات الاعتداء على المرأة زوجة وابنة وشقيقة على نحو مفزع يكشف عن خلل كبير في بعض البنى والتكوينات الأسرية والمجتمعية في بلادنا، خلل إذا لم تسارع الجهات المسؤولة اجتماعيا وأمنيا ودينيا وإعلاميا إلى دراسته ووضع حلول عاجلة له، فإنه سيصبح ظاهرة تتنامى وتتفاقم آثارها على نحو يمثل خطرا كبيرا على أمن الأسرة والمجتمع. تتنوع حالات الاعتداء على المرأة، ما بين الضرب والعنف المفضيين إلى عاهات أو موت، إلى سلب الحقوق واستغلال الولاية على نحو يجعل المرأة تُباع وتُشترى كأي سلعة في السوق، أو تعامل كمصدر يدر المال على الولي فيعمل على استمراره حين يحول دون زواجها. وإذا كانت المرأة تعاني منذ سنين من حالات الاعتداء بالضرب وسحق الكرامة والاستغلال والقهر وكافة صنوف الاعتداء المادي والجسدي من قبل الأزواج يليهم الآباء فالأشقاء، مما لم يكن أحد يعلم عنه شيئا إلا بعد أن بدأت الصحف مؤخرا بالكشف عنه، فإن مما يمثل شذوذا صارخا في المجتمع أمرين هما القتل المادي للفتيات، سواء ما كان منه قتلا مباشرا أو تحت وطأة التعذيب، والقتل المعنوي الذي يتمثل في اغتصاب طفولة الصغيرات ومعاملتهن كسلعة بتزويجهن لكبار بلغوا من العمر عتيا ؛ طمعا في أموال يجنيها الآباء منهم أو سدادا لما عليهم من ديون لهم! وهو أمر شاذ بدأ يظهر بقوة في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، وفي كلتا الحالتين يشكل كل من أولئك الآباء والأزواج معا انحرافا في النظرة إلى المرأة بنتا وزوجة وفي كيفية التعامل معها، إذ كيف يجرؤ أبٌ على تزويج طفلة؟ ناهيكم عن الدفع بها لرجل طاعن في السن يمثل عمره أضعاف عمرها طمعا في مال لم يستطع أن يجنيه بجهده فلم يجد أمامه سوى ابنته التي جعلها الله أمانة في عنقه وسيلة للاتجار بها، أو عندما يعجز عن سداد دينه فيقدمها فريسة في مذبح شهوات رجل لا يستحي من الاقتران بطفلة يقل عمرها عن عدد أصابع اليدين!! وحيث إنه سبق أن كتبتُ مقالا عن تزويج الصغار بعنوان(زيجات في دور الحضانة) لم أستطع أن أقاوم رغبتي في الكتابة مرة أخرى عن هذا الموضوع الذي أجده يدخل في دائرة الاعتداء السافر على الصغيرات والإخلال بالولاية عليهن، وذلك بعد أن رفض أحد القضاة إبطال زواج الطفلة التي زوجها والدها دون علمها وعلم والدتها لرجل خمسيني، وقبله باع رجل ابنته وهي طفلة لرجل ثمانيني بمبلغ ثلاثين ألف ريال! مما يشير إلى انتهاك براءة الصغيرات على نحو جائر لا يقيم فاعله وزنا لمسؤولية الرعاية (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ويضع المجتمع بأسره في مواجهة مباشرة مع ثقافة أشبه ما تكون بثقافة الرقّ حيث يُباع الإنسان ويُشترى! إنه كثيرا ما يتملكنا العجب ويأخذنا كل مأخذ أمام هذه الحالات الشاذة والغريبة، مما يجعلنا لا ننفك عن التساؤل ؛ إذ إن الأسئلة كثيرا ما تكون أشد مرارة وألما من الأجوبة نفسها، ومنها : ما الأسباب التي قادت بعض الرجال إلى الاعتداء على المرأة، بمعاملتها كعدو أو سلعة أو وسيلة للانتقام؟ ما حدود مسؤولية المجتمع بكل مؤسساته عمّا يحدث؟ لماذا يتمتع الرجال المعتدون على المرأة بالحصانة لاسيما في المحاكم، فلا يؤخذ على أيديهم ويعاقبون بنزع ولايتهم عن المرأة كإجراء أولي؟ أين يكمن الخلل الذي ولّد سلوك الاعتداء، أفي المناهج التعليمية، أم في الوعظ الديني، أم في الخطاب الإعلامي؟ وكيف أصبحت المرأة عنوانا لأبشع الجرائم من أب يتاجر بالصغيرات، إلى آخر يضرب ابنته حتى الموت، إلى ثالث يذبحها بالسكين كما تذبح النعاج، إلى رجل يتزوج طفلة في عمر أحفاده، إلى زوج يضرب زوجته ويسحلها في الطريق ليدوسها بسيارته؟ فأي وحشية تلبس بها هؤلاء؟ وأي عقيدة يؤمنون بها؟ كيف توارت معاني الرحمة والرأفة والخوف من الله من نفوس أولئك المنحرفين؟ ثم أين خطباء المساجد والدعاة والوعاظ الذين يروجون لفتنة النساء ونقصان عقلهن ودينهن من هذا الاعتداء الذي يتعارض مع كل ما نادى به الإسلام من قيم ومبادئ؟ لماذا لا يحسن بعضهم سوى الحض على التشدد في معاملة النساء لأنهن (أكثر أهل النار) وماذا يلبسن، وكيف يخرجن إلى ما هنالك من الأمور التي لا تشكل خطرا على أمن المجتمع وسلامته بقدر ما تشكله حالات الاعتداء على النساء؟ ثم لماذا تسهّل بعض الأمور على الرجل مثل عدم نزع ولايته مع ثبوت إساءته استخدامها، أو الحكم له بالحضانة على الرغم مما يقوم به من عنف واعتداء؟ أو عدم فسخ عقد زواجه من طفلة استغل أبوها ولايته عليها؟ وفي المقابل تصعّب بعض الأمور على المرأة كنزع الحضانة منها أو إلزامها بالتعويض المالي عندما تريد الطلاق مع وقوع اعتداء الزوج عليها وإساءة معاملتها وعدم قيامه بمقتضيات القوامة، وتجاهل حق الفتاة في الموافقة على الزواج، وعدم إبطال تزويجها دون علمها وعلم والدتها، فيتعاطفون مع الأب والزوج ولا يبطلون الزواج الذي افتقد ركنا من أركانه وهو علم الفتاة وقبولها؟ ألا تعد هذه الأمور انتهاكا صارخا لحقوق المرأة وامتهانا لكرامتها وإنسانيتها، وتواطؤا صريحا مع الرجل؟ مما يجعل التعدي على المرأة يحظى بما يشبه التأييد فيمر مرور الكرام في بعض المحاكم وكأنه أصبح حقا للرجل يمارسه في اطمئنان إلى عدم المحاسبة والعقاب؟ ولمصلحة من تغيّب الأحاديث عن القدوة الحسنة في التعامل مع النساء، تلك القدوة التي تتمثل في الرسول صلى الله عليه وسلم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)، وتوجيهات الرسول بشأن رعاية الفتيات والإحسان إليهن (من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو - وضم أصابعه) وقوله : (ما من مسلم تدرك له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الحنة) وقوله : (من عال ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو أختين أو ابنتين فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة). ونلحظ ترغيب النبي المسلمين في الإحسان إلى الفتيات حين جُعل جزاؤه الجنة، مما يؤكد أن الاعتداء عليهن ومنه تزويجهن بغير رضاهن واستغلالهن لمصلحة الأب المادية لا تدخل في نطاق الإحسان، بل تدخل في نطاق الظلم والجور والاعتداء الذي لا يحب الله فاعليه. يشير كل ما سبق إلى أننا نعيش في مجتمع ذكوري يتهاون في حقوق المرأة، إعلاءً لمكانة الرجل وتعزيزا لحقوقه حتى مع ظهور جوره وظلمه وإخلاله بحقوق من يتولى أمرهن من النساء، وما يحدث في موضوع المرأة في مجتمعنا يثبت أن بعضنا يعيش بعيدا عن تعاليم الدين، منعزلا عن قيم الإنسانية التي تجرد منها في إصرار على العودة إلى غريزة التوحش وشريعة الغاب، لقد أصبح من الصعب علينا حصر حالات الاعتداء التي توجه للمرأة مما تنشره الصحف على نحو يومي ناهيكم عن الحالات التي لا يعلن عنها، الأمر الذي يجعل المراقب يصاب بالإحباط واليأس من توقف تلك الحالات التي تتنامى وتتزايد يوما عن يوم. وكان الملك عبدالله قد أصدر توجيها يتعلق (بحفظ حقوق المرأة وتعزيز دورها في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة، وصون حقوقها في المؤسسات القضائية، وتطبيق الإجراءات التي تتضمن معالجة أي مماطلة تمس تلك الحقوق، ومنع أي عنف قد تتعرض له، والعمل على زيادة وعي المرأة بحقوقها. وكذلك ما يتعلق بضرورة الالتزام بما نصت عليه الأنظمة والتعليمات من كفالة حقوق الأفراد وعدم اتخاذ أي إجراء يمس تلك الحقوق والحريات إلا في الحدود المقررة شرعاً). لكننا نلحظ أن بعض مأذوني الأنكحة وبعض القضاة لم يراعوا العمل بذلك التوجيه الصادر من الملك بشأن حفظ حقوق المرأة فتصرفوا على نحو يسيء إليها ويسلب حقوقها، أفليس قيام المأذون بعقد زواج طفلة انتهاكاً واغتصاباً لبراءتها وتفريطاً في حقوقها؟ وكيف يمضي عقدا كهذا مع علمه أنها لم تُسأل، وفيما إذا سئلت هل تعي تلك الطفلة شيئا مما يحاك ضدها؟ ثم كيف يجيز تزويجها برجل يفوقها عمرا بمراحل؟ إن هذا الأمر يحتم محاسبة مأذوني الأنكحة الذين يقفون على مثل تلك الحالات، حيث يعدون مسؤولين في المقام الأول عن تلك الزيجات نظرا لإخلالهم بأهم شروط انعقاد الزواج. وكانت وزارة العدل قد أصدرت في 5مارس الماضي، أكثر من 34قراراً تأديبياً بحق مأذوني أنكحة لأسباب عدة، كان من بينها إجراء عقود نكاح دون موافقة الزوجة! أما القاضي فكيف يصر على إبقاء عقد الزواج حتى تبلغ الطفلة، ألا يعرّض هذه الطفلة إلى استغلال الزوج والتحكم في مصيرها حتى سن البلوغ؟ ثم هل تدرك طفلة الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وهو أقصى سن البلوغ أين تكمن مصلحتها كي توافق على إمضاء الزواج أو ترفضه؟ ثم ما الذي يضمن ألا يمتنع الزوج عن تطليقها ثم يقوم بعضلها؟ كان ينبغي للقاضي أن يكون أكثر إنسانية ورحمة وتفهما لحال تلك الطفلة فيبطل الزواج حتى لا تقع الطفلة تحت رحمة رجل كان منذ البدء عاقدا النية على الاقتران بها، لذا فإنه من غير المستبعد أن يشجع هذا الحكم بعض الآباء والرجال لعقد زيجات من هذا النوع! إن الرجال الذين يتزوجون صغيرات يرفضون في الغالب تطليق الزوجة "الطفلة" بحجة أنهم لم يرتكبوا محرماً وأن الدين الإسلامي لم يحدد عمراً معيناً لتزويج الفتيات، كما يحتجون بزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي في سن صغيرة! متجاهلين أنهم ليسوا الرسول وأن زمانهم غير زمانه! وهذا يستدعي تصحيح بعض المفاهيم الدينية التي يستغلها بعض الرجال لمصالحهم الخاصة، فالذين يحتجون بزواج النبي من عائشة الطفلة الصغيرة يتناسون أنه تزوج خديجة وهو في ميعة الصبا وكانت في الأربعين من عمرها، بل إن بعض زوجاته كن كبيرات في العمر كسودة بنت زمعة، فهل تزوج أولئك الذين يستشهدون بعائشة زوجات أكبر منهم عمرا؟ يقينا لا، حتى الذين ينادون بالتعدد بحجة محاربة العنوسة لا يتزوجون عندما يعددون سوى صغيرات السن، مما يعني أن استشهادهم بعائشة حق يتوسلون به إلى الباطل؛ وهو التعدد غير المبرر والزواج بالرضيعات!!! وكان الشيخ العبيكان قد دعا في تصريحات صحافية إلى نزع الولاية عن ولي الأمر الذي يجبر ابنته على الزواج، مطالبا بالتفريق بين الزوجين وإيقاع العقوبة على ولي أمر الزوجة ومحاسبة المأذون الشرعي الذي عقد النكاح، وذلك في قضية الفتاتين اللتين تبلغان ( 14و 11عاما)، وقام والدهما بتزويجهما دون موافقتهما من رجلين أحدهما تجاوز السبعين من العمر. (الشرق الأوسط 9سبتمبر 2008). كم نحن بحاجة إلى تنوير المجتمع بكافة أطيافه ليمنع انتشار تلك السلوكيات والممارسات المشينة بحق النساء، تنوير يحول دون استغلال الدين لصياغة مبررات لا تستقيم وروح النص الديني ومقتضيات العصر، لابدّ من تحديد سن تزويج الفتيات بما لا يقل عن ثمانية عشر عاما ليتلاءم مع تغير الظروف ويتناغم مع أحوال الزمان، فما كان صالحا للمرأة قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة ليس ملائما بالضرورة لامرأة هذا الزمان، مما يستلزم تكثيف الجهود على كل الأصعدة لتسليط الضوء على هذه الظاهرة غير الإنسانية، ومحاربتها والتوعية بأضرارها والأخذ على أيدي من يمارسونها سواء أكانوا آباء أم أزواجا، صيانة لكرامة الفتيات وحفظا لإنسانيتهن.