إنه من يُمن الطالع أن أرض العرب هي مهد الديانات ومهبط وحي السماء إلى الأرض، فالديانات كلها كانت البلسم الشافي لجراحات بني البشر.. جراحاتهم المنظورة وغير المنظورة. وحقا فقد قدمت هذه الديانات العلاج الناجع على مختلف الصعد الروحية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهلم جرا.. ولما كانت هذه الديانات السماوية لابد أن تُختتم بدين خاتم وبرسول خاتم كان الدين الإسلامي هو الذي تبوأ هذه المنزلة كما وكيفا.. ولكن ليس معنى هذا أن الدين الإسلامي كان له أن يُصادر تلك الديانات السماوية التي سبقته.. كلا -إنما الدين الإسلامي على وجه الإجمال والتفصيل يُصادق على تلك الأديان التي سبقته. كيف لا! والاختلاف بين هذه الأديان السماوية كان اختلافا في الدرجة لا في النوع، فجوهر الأديان كلها ومضامينها واحدة ومن أسماها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وكل الرسل الذين بعثهم الله كانوا ينطقون بكلمة واحدة من لدن نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم -والقرآن الكريم يطفح بتكرار هذه الكلمة في مواضع متعددة وهي قوله تعالى على ألسنة رسله جميعا..(أن اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم من إِلَهٍ غَيْرُهُ..) إذا من هذا المنطلق فالإسلام ليس بدعا من الرسالات ولا بدعا من الرسل السابقين، ولكن مع الأسف الشديد توجد هناك هوة بين الأديان لا يمكن ردمها إلا بالفهم العميق لجوهر هذه الأديان والوقوف عليها جميعا عن كثب عبر بصيرة لا بصر كي تُمد جسور المودة والمحبة والتلاقي بين أصحاب هذه الديانات المتفقة في العموم المختلفة في بعض التفاصيل.. تلك التفاصيل التي لا تؤدي إلى خرق هذا التفاهم. إن الديانات السماوية هي ديانات منزلة من إله واحد متصلة فيما بينها ووحي الله الطاهر القرآن الكريم يفصح لنا عن ذلك ببيان واضح حيث يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إن هذه الآيات منفردة أو مجتمعة هي الفيصل فتحسم كل اختلاف بين هذه الأديان، إن تلك الاختلافات التي أوجدها ممن دقوا إسفينا بين هذه الديانات وبعضها بعضاً أو من اجتهادات بشرية جانبها الصواب.. إن التناغم والتلاقي بين أصحاب هذه الديانات أوجد الله له أرضية صلبة في وحيه الطاهر حيث يقول الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أليس بيان هذه الآية أزال تلك الملاءة والتمزق الذي يوجد بين أتباع هذه الديانات!؟ وكلمة التلاقي بين هذه الديانات هي كما قلت آنفا توحيد الله بالعبادة وما سوى ذلك من اختلافات قد سوغها الله تعالى لعباده علما أن هذه الديانات جميعا أتت بقواسم مشتركة وهي الوصايا العشر والجميع يعلمها فلا داعي لذكرها هنا. إن لفظ كلمة الإسلام عند كل الأنبياء من لدن نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم قالوا جميعا إنا مسلمون.. وقال هذا القول أتباع هؤلاء الأنبياء. فالإسلام قد اتخذ من لفظ الإسلام مسماه وحينما نسمع قول الله تعالى (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فالله تعالى يقصد بالإسلام هنا كلمة التوحيد التي جاء بها الرسل جميعا، فالدين عند الله الإسلام بمفهومه العام الذي تواطأت كل الديانات عليه. إنه من الصعوبة بمكان أن أذهب وأسوق لكم جميع الآيات التي نطق بها كل الرسل وهي كلمة الإسلام فيضيق الزمان والمكان، ولكن إن كان ولا بد فخليق بي أن أذكر قول أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حينما قال الله تعالى على لسانه: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)، إذا فالطريق من أجل التفاهم وتقريب وجهات النظر بين هذه الديانات هو طريق ممهد مفروش بالورد . إن كثيرا من أبنا الأمة الإسلامية يوصدون الأبواب أمام التفاهم والحوار بين هذه الأديان!! كما أن أهل الديانات الأخرى لا يملكون أرضية للتفاهم ولكن أبناء الإسلام عليهم المسؤولية لأن الحق قد استبان عندهم وهم مسؤولون عن بيانه.. إن الإسلام أتى ليتم وليكمل ما جاء به الأنبياء السابقون.. فالإسلام أتى لتمام الكيف وكمال الكم قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فالرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء ليتم وليكمل ما جاء به إخوانه السابقون من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، وعيسى عليه السلام هو الآخر يقول لليهود آنذاك «أتيت لأتم لا لأنقض» وما دمت بصدد التفاهم والحوار بين هذه الديانات فإن كان لمقالي بيت قصيد مشهود فهو ما سأقوله أدناه.. إن كثيرا من أبناء الأمة الإسلامية يقولون بأن أصحاب تلك الديانات لن ترضى عنا إلا إذا نهجنا نهجهم ويعضدون ذلك بقوله تعالى: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) إنه يجب علينا أن نمعن النظر في مفهوم الآية السابقة وهو أن أصحاب تلك الديانات لن يرضوا عنا حتى نتبع أهواءهم لا أن نتبع ما في التوراة والإنجيل من حق!!.. إن عدم الرضا من اليهود والنصارى هو أن لهم أهواء مخالفة لما في التوراة والإنجيل وإلا لو فهم اليهود والنصارى ما في التوراة والإنجيل واعتنقوه لرضو عنا ولرضينا عنهم، وإلا قولوا لي بالله عليكم كيف أسلم عبدالله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما كثير من عهد الرسالة المحمدية إلى وقتنا الحاضر!!