إنه من يُمن الطالع أن أرض العرب هي مهد الديانات ومهبط وحي السماء إلى الأرض، فالديانات كلها كانت البلسم الشافي لجراحات بني البشر.. جراحاتهم المنظورة وغير المنظورة وحقاً فقدمت هذه الديانات العلاج الناجع على مختلف الصعد الروحية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهلم جرا فجوهر الأديان كلها ومضامينها واحدة ومن أسماها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وكل الرسل الذين بعثهم الله كانوا ينطقون بكلمة واحدة من لدن نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. من هذا المنطلق فالإسلام ليس بدعا من الرسالات ولا بدعا من الرسل السابقين، ولكن مع الأسف الشديد توجد هناك هوة بين الأديان لا يمكن ردمها إلا بالفهم العميق لجوهر هذه الأديان والوقوف عليها جميعاً عن كثب عبر بصيرة لا بصر كي تُمد جسور المودة والمحبة والتلاقي بين أصحاب هذه الديانات المتفقة في العموم المختلفة في بعض التفاصيل.. تلك التفاصيل التي لا تؤدي إلى خرق هذا التفاهم. إن الديانات السماوية هي ديانات منزلة من إله واحد متصلة فيما بينها ووحي الله الطاهر القرآن الكريم يفصح لنا عن ذلك ببيان واضح حيث يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إن هذه الآيات هي الفيصل فتحسم كل اختلاف بين هذه الأديان، إن تلك الاختلافات التي أوجدها ممن دقوا إسفيناً بين هذه الديانات وبعضها البعض أو من اجتهادات بشرية جانبها الصواب.. إن التناغم والتلاقي بين أصحاب هذه الديانات أوجد الله له أرضية صلبة في وحيه الطاهر حيث يقول الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أليس بيان هذه الآية أزال تلك الملاءة والتمزق الذي يوجد بين أتباع هذه الديانات!؟ وكلمة التلاقي بين هذه الديانات هي كما قلت آنفا توحيد الله بالعبادة فالديانات جميعا أتت بقواسم مشتركة وهي الوصايا العشر والجميع يعلمها فلا داعي لذكرها هنا. فلو حاورنا أهل الكتاب عبر فهم كتاب الله تعالى لانقادوا للإسلام بسلك من حرير، وإذا كنت أنحي باللائمة أحيانا على أبناء الإسلام فإنني سأنحو باللائمة إلى أصحاب هاتين الديانتين لأنهم قد عابوا علينا ديننا منطلقين من نصوص لا تمثل الإسلام الحق لا من بعيد ولا من قريب والإسلام بريء منها براءة الذئب من دم يوسف. إن الدين الإسلامي دخل عليه ما ليس منه عبر اجتهادات فردية تصيب أحيانا وتخطئ أحياناً كثيرة. إن الذي يريد الحق وما جاء به الإسلام فعليه أن ينطلق من أرض صلبة ولا يتأتى ذلك إلا عبر القرآن الكريم وصحيح السنة الشريفة إن الذي يركب صهوة تلك الاجتهادات الضيقة لن يقف على صحيح الإسلام. وخلاصة القول: إن القرآن الكريم مصدقا لما في التوراة والإنجيل على حد سواء قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وهيمنة القرآن هنا على الكتب السابقة هيمنة درجة لا هيمنة تضاد.. وإذا كان الله تعالى يطالب الرسول صلى الله عليه وسلم بالتصديق على تلك الكتب فإن القرآن الكريم يأمر أهل الكتاب بصحة ما جاء في القرآن الكريم قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ۚ..) وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ..) أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله عنه وعن رسالته: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..) إن الفارق بين الكلام الذي قاله موسى وعيسى لأتباعهما آنذاك وبين الكلام الذي قاله نبينا هي كلمة (جميعاً) هذه الكلمة تبين عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. وإني حينما أتقدم بهذه الرؤى التي انطلقت منها عبر كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام فإنها أفكار قد أذكاها وحفزها جهود خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله ورعاه- ..فهو ذلك الرجل الذي نذر نفسه من أجل إقامة أواصر المحبة والسلام بين الأمم والشعوب والتحاور بين أتباع الديانات المختلفة، ولما رأيت جهود خادم الحرمين أنها قامت بدور طليعي بهذا الصدد فإني أحببت أن أدلي بدلوي حيال هذا الموضوع.