قبل أيام مضت كنت في مجلس مع صاحب لي، نتجاذب أطراف الحديث ونتناقش فيما يدور في الساحة اليوم، وبالأخص الساحة التويترية! فاستوقفني مندهشاً من وسم قد أطلق وتغريدات قد تتابعت حول موضوع يدعي صاحبي بأنه للمرة الأولى يقرأ عنه. وللوهلة الأولى يسمع الحديث حوله في مجلسنا ذاك. بل تجرأ صاحبي وأطلق علي تهمته، وأشار إلي بأصبعه قائلاً: أمنجم أنت؟!. معاشر القراء: لقد كان صاحبي يقصد بالتنجيم ذلك الوسم -الدراسات الاستشراقية-، وقل إن شئت علم المستقبل أو استشراف المستقبل، ذلك العلم الذي أفل نجمه في سماء أمتنا الإسلامية بعد أن كان يشع نورا يقتبسه علماؤنا من نصوص الوحيين. ثم عاد وظهر ذلك النجم على استحياء قبل ثلاثين عاماً تقريباً!! وقد أولى الإسلام المستقبل عناية بارزة جداً، بل تجاوز هذه الدنيا إلى ما بعدها، فالمسلم ينتظر جزاءً مستقبلياً وعده الله به، وجعل الإيمان به ركناً من أركان الإيمان لا يصح إيمانه دونه، قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. والقرآن الكريم مملوء بالدعوة إلى التفكر في سنن الله وفي الخلق الذي يقود إلى المستقبل الحقيقي للمسلم في شأن الدنيا والآخرة، قال تعالى ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. وقال سبحانه ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ وانطلاقاً من هذا التفكر والنظر يستفيد الإنسان أن معظم التحولات التي تتم في هذه الحياة قائمة على معطيات الماضي والحاضر، وهذا يدعوه إلى دراستها والاستعداد لها. والقرآن الكريم إذ يقص علينا أخبار السابقين وقصص المرسلين، فليس ذلك للاعتبار به فحسب، بل هو أيضاً إعلام بما ستراه هذه الأمة في مستقبل الأيام، وقد أمر الله بالاستعداد لما سيأتي فقال سبحانه ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ وقد نصت السنة النبوية على كثير من الأحداث المستقبلية والمتغيرات، التي ستقع وحذرت من فعل أمور ورغبت في فعل أمور أخرى، وسيرته مليئة بأمور كثيرة ستقع قبل وقوعها وهو من الغيب الذي كشفه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأذن له في كشفه لنا لنسترشد بما سيكون قبل أن يقع ونستعد له، ليكون عوناً لنا وتخفيفاً علينا، ويتمثل ذلك في إخباره عن زوال مملكة فارس والروم وغيرهما. وفي واقعنا المعاصر سادت ثقافة استشراف المستقبل في مجتمعاتنا بعد أن شاعت في المجتمعات الغربية، وأصبحت محوراً يتحدث عنه في جوانب الحياة المختلفة. وكل هذا يؤكد إن استشراف المستقبل له أهمية في إصلاح المجتمع من خلال التأكيد على القيم التي ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الترغيب في طلب العلم والشورى وغيرهما للوصول إلى الهدف وتجنب المخاطر والمشكلات المحتملة، فهو يتطلب معرفة ومهارة ويستلزم عزيمة وإرادة ويهدف إلى جلب خير أو دفع ضر. وبعد هذا التطواف يمكن لي يا صاحبي أن أعرف لك علم الدراسات الاستشرافية بأنه: جهد علمي منظم يعمد إلى استخدام بعض القواعد والاستراتيجيات التي تقوم باسترداد الماضي وتستحضر الواقع، وتستشرف المستقبل؛ من أجل إيجاد حلول عملية لجملة من القضايا المعاصرة. أبعد هذا كله يا صاحبي ستقول لي: أمنجم أنت؟!.