كأن شيئاً لم يتغيّر منذ 11 سبتمبر2001م. ففي الذكرى الثالثة عشرة لتفجير برجي التجارة العالمية، رمز الهيمنة الأمريكية الاقتصادية، والهجوم على البنتاغون، رمز الهيمنة العسكرية، عاد بوش- الابن فارس الحملات الصليبية والمدافع الأكبر عن الإنسان والعالم الحر، عاد ولكن بملامح الديموقراطي الأسمر التي يتسم بها الرئيس باراك حسين أوباما، ليمارس دور شرطي الكون، الدور الذي زعم تخليه عنه في حملاته الانتخابية «خصوصاً في ولايته الأولى» وكأن يافطة التغيير من خلال تقليص القطبية الأحادية والاهتمام فقط بالشأن الداخلي وترميم الاقتصاد الأمريكي المأزوم، وهو الوعد الذي داعب به مشاعر الأمريكيين والعالم، لم تكن سوى حيلة عسكرية أو حصان طروادة يستبدل هيمنة بأخرى، أو إرهاباً بآخر. لم يعد سراً ولا شيئاً جديداً القول إن التطرف الذي أنتج طالبان والقاعدة هو صناعة استخباراتية في سياق الحرب الباردة. كان زعيم البيت الأبيض حينذاك يصف المقاتلين الإسلاميين بأنهم فرسان الحرية «مقاتلون في سبيل الحرية» وهو يعني بالطبع حرية الهيمنة الأمريكية والحفاظ على المصالح الأمريكية وديمومة التفوق الأمريكي، بحيث يمكننا أن نلاحظ بوضوح التواطؤ بين الإنزياحات الدلالية من مفردات الجهاد ومشتقاتها إلى مفردات الحرية بمفهومها الأمريكي! كما يمكننا أن نلاحظ في نفس الوقت التوظيف الاعتباطي لكلمات تفتقد المعنى، كلمات تعبأ بمعانيها المستقاة من الإرادة التعسفية للعم سام، الذي لم يكن يريد -في ذلك الوقت- للتطرف، للعنف المقدس، أن يكون إرهاباً، ما دام موجهاً ضد العدو الأيديولوجي «الاتحاد السوفياتي». كأن شيئاً لم يتغيّر منذ تلك اللحظة، لأن ثمة إعادة إنتاج تخييلة للحدث، كما للواقع واللغة. لا يأتينا الحدث طازجاً، إذ دائماً ما تبرع الهيمنة في اللعب بالحدث والواقع واللغة. يتم استدخال السينما كعنصر أساس في اللعبة، منذ الثمانينيات مروراً بالتضليل الشهير الذي مارسه الساسة الأمريكيون بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق قبيل الغزو في 2003م وصولاً لمشاهد إعدام الرهائن الغربيين، تلك المشاهد التراجيدية التي جرت عادة هوليود على إتباعها بمشاهد سعيدة تحد من كآبة المآساة بنهاية انتصار فانتازي للبطل، وهو هنا بالطبع راعي بقر يتخذ شكل شرطي «أمريكي» يحرس العالم، وغني عن القول إن كل تلك المشاهد قد انقلبت إلى كوميديا هزيلة ما إن بانت البصمات الاستخباراتية في الإخراج، وفي الغاية والهدف، كما يخبرنا بمهارة فائقة قاضي القضاة «يوتيوب». الأفلام المفبركة تمنح ما يسميه «جان بودريار» الملاذ الخيالي في وجه الحدث نفسه، إنها شكل من الفرار من رعب محبب، للوصول إلى ذروة الانفعال المطلوب. لنقل مع بودريار، ودون السقوط في عقل تآمري، إن الحدث الطازج تحجبه مؤامرة ما.. الحدث بكل أصالته نقاء مستحيل، هذا الحدث ليس من شأنه إلا أن يصل مفلتراً، تعبث المؤامرة بكل عناصر الصورة، بحيث يتحول الحدث إلى «مؤامرة الحدث»، وهي بهذا المعنى تؤدي بإتقان الدور المتبع في كل مكان تتم فيه مواجهة الإرهاب بالإرهاب، العنف بالعنف «عنف خلق الحدث». لا يتردد الاعتباط الأمريكي- كلما عنّ له ذلك- في تجريد العنف «الإرهاب» من مضمونه المقدس، أو العكس من ذلك، كلما فقد العنف الإسلاموي مبرراته الوظيفية، فالوظيفة التحررية للعنف المقدس في الثمانينيات، التي تشبه الدور المكفول للمعارضة «الإسلامية المعتدلة» في سوريا، انقلبت فجأة إلى لعبة دموية متوحشة يتوجب على حارس الحريات الوقوف ضدها بحزم ودون تردد، أي بعبارة أخرى بالإرهاب نفسه، العنف الذي كان محصلة لتشابك سياسات الهيمنة بالتعبئة الأيديولوجية والدعم اللوجستي تحت رعاية اللاعب نفسه الذي سيقوم اليوم بدور الحرب الشاملة. من الواضح أن المواجهة تصبح عبثية ما لم تبدأ بتغيير جوهري في السياسات الأمريكية في العالم والشرق الأوسط، إذ لم تكف الإدارة الأمريكية عن اعتبار الشرق الأوسط مجرد خزان نفط، لم تتوان لحظة عن إجهاض كل مشروع وطني للتحدي الناجح على حد تعبير المفكر اليساري الأمريكي نعوم تشومسكي، كما لم تكف في نفس الوقت عن تغطية كل غطرسة تقوم بها إسرائيل، كأن الأخيرة هي الحقيقة الثابتة بين كل تحولات السياسة الأمريكية، بحيث تستفرد إسرائيل بالسمة الفريدة «لإنسان فوق أخلاقي»! إن إستراتيجية الحرب الأمريكية ضد الحرب تتكئ كما في كل إستراتيجية على معالجة سيسيولوجية تخون ذاتها بحسب التعبير البليغ لعالم الاجتماع الفرنسي بورديو، ليس لاكتفاء المعالجة بتوصيف يتلمس إضفاء المشروعية أو «أدوات التحريض»، وإنما لأنها تبدأ مما كان يجب أن تنتهي.. لم يفعل جديداً حين أقام المهيمن الأمريكي الذي توّج نفسه كشرطي للعالم بعض التعديلات على الإستراتيجية بتقليص العنصر العسكري المباشر لصالح العمل الاستخباراتي وسلاح الجو، لم يفعل سوى المراوحة بين أشكال القمع «استبدال شكل قمعي بآخر»، متناسياً أن المعركة هي في جوهرها معركة أيديولوجية، معركة يجب أن تتكئ على تغاير واختلاف حقيقي في الخطاب والمرجعية الفكرية، فنحن نعلم أن الجهادية السلفية أحزاب عقائدية يمثل المكون الفكري عنصرها الجوهري، مما يعني أن أي إستراتيجية يجب أن تبدأ بتجفيف المنابع، بمواجهة فكرية لا تتوسل بأدوات القمع، مواجهة تبدأ بأكبر قدر ممكن من تحييد الفاعل السياسي المحلي، بحيث يمكن للتنوير أن يمارس دوره الحقيقي في مواجهة الظلامية الدينية، على المستوى الداخلي فقط دون إملاءات خارجية، هذا طبعاً إذا افترضنا الجدية وإذا تجاوزنا حقيقة أن منتج السلاح هو في نهاية المطاف المستفيد الأول والأخير من كل بؤر التوتر في المنطقة.