يخطئ من يظن أن الحرب العالمية على الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله تحرز تقدماً بعد كل هذه السنوات... لست متشائماً أكثر من اللازم، لكنني وغيري من المهمومين بهذه القضية نقرأ المشهد بكامل تفاصيله بعيداً من اللعبة السياسية التي تستهدف أصوات الناخبين الأميركيين، أو تلك التي تحاول «تبييض» وجوه بعض الحكومات أمام الرأي العالمي. الإرهاب الديني «ثقافة» تستوطن العقول قبل أن تتجسد في كائنات تمشي على الأرض، وتحول الأموال عبر البنوك، وتستخدم الهواتف المحمولة ومواقع «الانترنت» لتبادل المعلومات والأوامر لتحقيق أهدافها الإجرامية. قبل نحو تسعة أعوام من اليوم كتب المفكر جان بودريار في «اللومند» ما نصه «الإرهاب لا يبتكر شيئاً، إنه فقط يدفع الأمور إلى حدها الأقصى، إلى الذروة، إنه يفاقم حال بعض الأمور، ويفاقم منطقاً متعيناً للعنف والارتياب»... هذه الكلمات القليلة لخصت آلاف العبارات التي يمكن أن تتحدث عن الإرهاب الديني كظاهرة عالمية لها عمق استراتيجي لا تنفصل عنه ولا يمكن الحديث عنها حديثاً ذا أهمية من دون الإلمام بذلك العمق. إن المتابع للشأن السعودي، على سبيل المثال، والحراك الاجتماعي والفكري طوال العقود الثلاثة الماضية لابد أن يلاحظ أن هناك امتداداً تاريخياً لأفكار منظري تنظيم القاعدة، ونقاط التقاء جوهرية بينها وبين معظم أفكار تيارات دينية في الداخل، ولعل الكثير من أصابع الاتهام تشير بشكل مباشر للتيار المسمى ب«الصحوة» وهو التيار الذي أؤمن تماماً بأنه العمق الاستراتيجي الحقيقي لتنظيم القاعدة وجماعة التكفير والهجرة وغيرهما من الجماعات والتنظيمات التي تنطلق من المنطلقات نفسها، وحتى لا يظن أحد أنني أطلق الكلام على عواهنه، وألقي بالتهم جزافاً، دعونا نتساءل عن بدايات «القاعديين»، وعن شيوخهم الذين أنثنت الركب طويلاً في مجالسهم ومساجدهم قبل التحاق الطلبة بالتنظيم والتحاق الشيوخ بالفضائيات، هي مفارقة قد تبدو غريبة لكنها في الواقع نتيجة حتمية الحدوث وفق التسلسل المنطقي للمشهد كاملاً... حتى عندما يريد القاعدي الخروج من التنظيم والعودة إلى الحياة الكريمة والآمنة في وطنه، فإنه يبحث عن شيوخه القدامى أو شيوخ «الصحوة» لمحاورتهم ومطالبتهم بالتوسط له لدى السلطات، ومن شبه المستحيل أن يلجأ للمفكرين أو الأدباء أو الأكاديميين، فعمقه الاستراتيجي هناك في مجالس الصحوة وثني الركب وتصدير أشرطة الكاسيت لا قاعات الجامعات والملتقيات الثقافية ومعارض الكتب. إن الإجهاز على الفكر الإرهابي الضال يجب أن يبدأ من تجفيف مصادر تمويله ثقافياً لا مادياً، تلك المصادر التي تتجسد بكل تناقضاتها وصخبها في «العمق الاستراتيجي» الذي بات اليوم أعلى صوتاً وأكثر فاعلية، حتى من مرحلة ازدهاره الأولى في منتصف الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الميلادي الماضي، ومن يأخذ جولة بسيطة على الفضائيات العربية المتناثرة في ال «عربسات والنايل سات» وغيرهما سيؤمن تماماً بأن السماء باتت تمطر إرهابيين مستقبليين يتتلمذون على أفكار «صحويين» حاليين... إنها ببساطة دورة الحياة نفسها تتكرر وتغير أساليبها وفق متطلبات العصر، فالكتيبات الدينية المتطرفة التي كانت تباع بالسر في الثمانينات تحولت إلى منتديات «انترنتية» فيما تحولت أشرطة الكاسيت إلى قنوات فضائية تحقن متابعيها بجرعات أضخم من تلك التي تلقاها سابقوهم، ولكم أن تتخيلوا النتيجة بعد سنوات عدة من الآن. الجهات المختصة في السعودية تنبهت لهذا الخطر أخيراً واتخذت قراراً بسحب ترخيص قناة فضائية كانت تؤجج الصراعات الفكرية والاجتماعية في البلاد، أو تدفع الأمور إلى حدها الأقصى، بحسب نظرية «بودريار»، لكن المشهد لا يزال قاتماً في ظل وجود عشرات القنوات الأخرى التي تُبث من خارج المملكة، وتصول وتجول ليلاً ونهاراً لتأجيج الفتن بين التيارات الفكرية والمذاهب، بجانب المحاولات المتكررة والمبطنة لتجييش العامة ضد التوجهات والقرارات الحكومية، وكما سيطر تيار الصحوة على جزء كبير من المشهد الثقافي السعودي قبل عقدين من الزمان بالوسائل الإعلامية البدائية، ها هو يعود اليوم ليسيطر على جزء أكبر من المشهد الثقافي العربي والإسلامي عبر الفضائيات، وهذا هو الخطر الأكبر الذي لابد من مواجهته بصرامة قبل أن نصحوا على كوارث جديدة أفظع من كل الكوارث التي شهدها العالم على أيدي أعداء الحياة. [email protected]