زيارتي إلى مهرجان «إثراء المعرفة» الذي أقيم مؤخراً في جدة وضعتني في حالةٍ من الدهشة، فالمفاجأة لا تقف عند عدد الزوار، وتنوعهم، وصفوفهم الطويلة أمام الخيم التي تقام فيها الفعاليات ولكنها تمتد إلى الأجواء، والفعاليات، والجرعة الثقافية التي أتاحها البرنامج. إنها مفاجأة على مستوى الحضور، والفعاليات، والتنسيق والتنظيم، وكأنني أمام «إثراء لاند». لم ينجُ أحد من تلك الدهشة، هذا ما لاحظته على اختلاف الزوار واختلاف مشاربهم الثقافية، ومستوياتهم الاجتماعية، وفئاتهم العمرية، وبدا الجميع متعطشاً لنمط جديدٍ من الفعاليات، التي تتيح من المعرفة والفنون والثقافة مقداراً أوفى وبشكلٍ شيق وممتع. الآراء والتعليقات، واللمحات الأولى كلها كانت تؤذن بأننا أمام مناسبةٍ من نوعٍ مختلف. من بين الحضور كانت صديقتي «نهى فتياني» التي إلتقيتها صدفة هناك، وهي الابنة الثالثة للعم محمد الذي التقيته عند البوابة قادماً برفقة عائلته، وهي التي أقنعت والدها بزيارة المهرجان بعد أن حفزتها معلمتها للقيام بذلك.. العم محمد هو نموذج لربّ الأسرة السعودي، الذي يحار في نوعية النشاطات الترفيهية التي يمكن أن يصطحب إليها عائلته، وبكثير القنوط وبعض الأسى ينصاع في كل مرة إلى رغبتهم بالذهاب إلى أحد المولات التجارية التي ملأت المدينة، ويؤكد العم محمد أن الأسى ليس بسبب الميزانية التي تكلفها زيارة العائلة للأسواق، ولكن بسبب ضياع أوقات أبنائه وعدم جدوى عطلاتهم، وانعدام الفعاليات التي تنمي مواهبهم وتطوّر تفكيرهم. استعدت كلمات عم محمد أثناء تجوالي بالفعاليات المقامة، واستمعت إليها من أفواه آخرين، يعتقدون بصدق أن الحل يكمن في جوهر الثقافة المخزون لا في الفعاليات المصطنعة ووسائل الترفيه التي تركز على الأبعاد المادية أكثر من أبعادها الروحانية والثقافية، التي باتت تهدد أجيالاً صاعدة، لا تعرف سوى التطور التكنولوجي بصبغةٍ هشةٍ من ثقافةٍ عربيةٍ ، وبأشكالٍ تجاريةٍ بحتةٍ تشجع على الاستهلاك، وتترك داخلهم خواءً إنسانياً وثقافياً يحتاجون إلى ملئه ليصبحوا أكثر إنتاجاً وفعالية. في المملكة نسبة الأجيال الصاعدة هي الأكثر، و الثقافة الاستهلاكية سائدة، والنخب الثقافية تنزوي في مجتمعاتٍ صغيرةٍ معزولة، وغالباً ما تختار الأسرة السعودية المتوسطة قضاء عطلتها الأسبوعية في أحد المولات التجارية، ولا تعد أن زيارة معرضٍ تشكيلي، أو مسرحيةٍ هادفةٍ للأطفال، أو ورشة عملٍ إبداعية خياراتٍ مطروحةٍ، أو نشاطات يمكن التفكير فيها كخيارٍ استراتيجيٍ للترفيه وقضاء الوقت الممتع. ولهذا كثيرون يعتقدون أن إحلال النظام صعبٌ لدينا، يتطلب تربية عقودٍ وتطبيق عقودٍ لنكون كالغرب، في إثراء المعرفة كان النظام متشدداً، لم يعترض أحد، ولم يحاول أحد أن يتجاوز شاباً لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره يقف متطوعاً مع رفاقه لتسيير الجموع ومراقبة النظام. لاحظت أن الفعاليات صممت لتكوّن في مجملها نشاطاً ترفيهياً هادفاً للعائلة بأكملها، وهناك حضور لافت للنشاطات التفاعلية، فالزائر يتفاعل عبر التعلم، والتجاوب والتحاور، والمسابقات والأسئلة التي يمكنه المساهمة بها عبر الحواسب الآلية في كل خيمة، ويتعدى الأمر مجرد التعليم والتوعية، والإخطار والتفاعل، ليصل إلى حد دفع الزائر وتحفيزه إلى قطع تعهدٍ واعتماده بكامل إرادته ليتصرف بإيجابية مع هذه التحديات في محيطه الشخصي. حقيقة في إثراء المعرفة شهدت ما جعلني أعتقد أن هذه التجربةٍ تؤذن بدخول عصرٍ جديد من الفعاليات الترفيهية، لا تستهدف جيب الزائر، ولا تستغفل عقله ، إنها تلهمه، وتحاوره، لتنقل إليه المعرفة والوعي، وتحفزه ليكونهما.