طلب شيخُ المعلِّقين، وشيخُنا، الأستاذ دعشوش في تغريدة له من الزميل الأستاذ الدكتور عبد الله الغذامي المشاركة في النقاش الذي نشرتْه «الشرق» بين الأستاذ إبراهيم طالع وبيني عن بعض قضايا اللغة العربية. فأجابه الأستاذ الدكتور الغذامي بقوله: «لم أطلع عليه. أما نظريتي عن حال اللغة فهي في بحث طرحته في جامعة قابوس». ولما ألح عليه دعشوش مرة أخرى بطلب المشاركة أجابه: «هناك قضايا أرى أني قلت فيها الرأي الذي أراه ولم يعد سوى تكرار القول». ومع أنه يكفي الأستاذ الدكتور الغذامي عذرا تصريحُه بأنه لم يطلع على ذلك النقاش إلا أن عذره غير وجيه علميا، لأنه لا يسع مثقفا بارزا كالأستاذ الدكتور الغذامي أن يصد عن المشاركة في نقاشِ قضايا بأهمية تلك القضايا للغة العربية، خاصة وللثقافة العربية عموما. ولم يتوقف الأستاذ الدكتور الغذامي عند الاعتذار بعدم الاطلاع على النقاش، وهو ما يمكن أن يقبل عذرا بغض النظر عن وجاهته، بل أحال إلى ما وصفه ب«نظريته» التي ضمَّنها بحثا أشار إليه ليعني أن قضايا ذلك النقاش جزئيات مما سماه «حال اللغة». أما اعتذاره الثاني فيعني أن تلك القضايا تدخل، مع أنه لم يطلع عليها، ضمن ما قال رأيه عنه من قبل، وأن ما يمكن أن يقوله عنها سيكون تكرارا – حتى إن لم يكن لما قاله صلة بالقضية محل الإشارة! ويثير الاعتذاران سؤالا علميا؛ إذ كيف حكَم الدكتور الغذامي بأن «نظريته» و«رأيه» يجيبان عن قضايا لم يطلع عليها؟ وكيف حكم على أن «نظريته» و«رأيه» على صلة بالنقاش المقصود الذي لم يطلع عليه؟ وربما عنى بجوابيه أن قضايا اللغة العربية تتمثل كلها في القضية التي ناقشها في بحثه، ولم يعد فيها مجال للقول بعد «نظريته» التي صاغها و«رأيه» الذي أبداه، وأن أي نقاش عنها، اطلع عليه أو لم يطلع، سيكون تكرارا. ويمكن لأي مطلع على النقاش بين الأستاذ طالع وبيني وعلى بحث الدكتور الغذامي («حال اللغة العربية»: كيف تعمل اللغة/سؤال في ثقافة اللغة»، الجزيرة الثقافية، 1434/1/22 ه/2012/12/6م) أن يكتشف عدم وجود صلة مباشرة لذلك النقاش بما تناوله الدكتور الغذامي في بحثه. ذلك أن بحثه يتناول قضايا مختلفة عن القضايا التي تناولها النقاش بين الأستاذ طالع وبيني، ولا صلة ل «نظريته» و»رأيه» بموضوع ذلك النقاش تحديدا. ومع هذا فهو يتصل بالنقاش العام عن قضايا اللغة العربية. وتتصل الملحوظة الأولى على جواب الدكتور الغذامي الأول بمفهوم «النظرية». فهناك شروط معروفة، كما يعرف المهتمون، على ما يمكن أن يسمى «نظرية»، وهي لا تنطبق على بحثه ذاك. فما كتبه ليس إلا «رأيا»، كما وصفه به في الجواب الثاني. ثم إن تضخيم الرأي، مهما كان عميقا، بوصفه «نظرية» يتنافى مع ما يتطلبه البحث العلمي من تواضع. يضاف إلى ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يزعم أنه قال الكلمة «العلمية» الأخيرة عن أي شيء. ويمكن هنا الإشارة إلى تشومسكي الذي ظل يعمل بكثافة لأكثر من ستين سنة في تعميق منهجه لدراسة اللغة. ومع ذلك لم يقل يوما، بالرغم من النجاحات المهمة التي حققها، هو وآلاف اللسانيين في إطار نظريته، إنه قال، هو أو غيره، كلمته الأخيرة في الموضوع. بل لقد صرح في محاضرة ألقاها قريبا أن «النظرية» اللسانية لا تزال في طور بدائي in a primitive stage! والمثال الثاني ما حملتْه الأنباء هذا الأسبوع من تخلي عالم الفيزياء الكونية الشهير ستيفن هاوكنج عن «نظريته» بصورتها التي اقترحها قبل أربعين سنة عن «الثقوب السوداء» (Stephen Hawking says black holes don't exist, Yahoo News, 2014/1/25 «ستيفن هاوكنج يقول: «لا وجود للثقوب السوداء»). وتتمثل القضية التي تصدى لها الدكتور الغذامي في «نظريته» عن «الطباق الثقافي» في ظاهرتين متلازمتين هما: «حالة ازدهار للغة العربية»، في العصر الحاضر، يقابلها «ما نعرفه من شكوى عامة ومن النحويين خاصة وهي شكوى تقول بانحدار اللغة وضياعها بين أهلها». ويلفت النظر أن الدكتور الغذامي يرى أن القضية التي عرض لها ليست «سؤالا في علم اللغة». ويعني هذا أنه لا يمكن ل «علم اللغة» أن يقدم وجهة نظر وجيهة في تحليلها. هذا مع أن هذه القضية تناقش بكيفية أكثر دقة وعلمية في اللسانيات من تناوله الذي ينظر إليها على أنها تتعلق ب«سؤال في ثقافة النسق السلوكي للأفراد مع حال لغتهم في شرطهم التواصلي حسب الثنائية الجوهرية والعملية: (الإفهام والفهم)»، وهو كلام لا يعني شيئا. وقبل أن أتناول وجهة نظر اللسانيات في هذه القضية ينبغي التعريج على تأريخ الأستاذ الدكتور الغذامي للتنازع بين النحويين واللغويين ومستخدمي اللغة العربية. وهو تنازع ليس جديدا، كما قال، ولم يبدأ مع برنامج المرحوم مصطفى جواد الذي ابتدع «بدعة (قل ولا تقل) وجعلها برنامجا إذاعيا يضع شروطا على اللسان اللغوي»، وليس صحيحا «أن (قل ولا تقل) لم تظهر في العصر العباسي». ومن أهم الشواهد على تحكُّم النحويين واللغويين القدماء في مصير اللغة العربية وَقْفهم للاحتجاج بعد منتصف القرن الثاني الهجري. ويعني هذا أنهم كانوا لا يرون صحيحا نحويا ولغويا أيَّ استخدام لغوي أو نحوي لا شاهد له من فترة ما قبل منتصف القرن الثاني الهجري. ولهذا التحكم أثر أكبر من أي أثر لبرنامج «قل ولا تقل» وما أشبهه من محاولات حديثة لما يسمى ب«التصحيح اللغوي». ويعرف طلاب أقسام اللغة العربية العلاقة المتوترة بين الشعراء والنحاة. ومن أشهر الأمثلة عليها ما يروى من إنشاد الفرزدق قصيدة منها البيت التالي بحضور النحوي عبد الله بن إسحاق: وعضُّ زَمَانٌ يا ابنَ مروانَ لم يَدَعْ من المال إلا مُسْحَتًا أوْ مُجَلَّفُ فقال له ابن إسحاق: «عَلامَ رفعتَ: «أو مجلف»؟ قال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأوَّلوا». ولا أظنه يخفى الدكتور الغذامي أن عشرات الكتب أُلفت في تلك الفترة عن «لحن العامة» وتخطئة كثير من الاستخدامات اللغوية والنحوية التي «يُبدِعها» الشعراء، وأشهرهم أبو تمام والمتنبي. ومن الكتب المشهورة في ذلك «أدب الكاتب» لابن قتيبة، و: «إصلاح المنطق»، و«الفصيح» لابن السكيت، وغيرها. وتكاد المعاجم العربية تخلو من المفردات والمصطلحات «الحضارية» والعلمية التي جدَّت في العصر العباسي لأنها جاءت بعد عصر الاحتجاج، ولخروجها على بعض القوانين النحوية واللغوية القديمة. والأمر الآخر الذي ينبغي أن يناقش هنا هو استخدام الدكتور الغذامي مصطلح «اللغة العربية الفصحى» وصفا لما يُكتب ويقال في وسائل الإعلام والروايات والصحف ووسائل الاتصال الحديثة، وفي «التُّوِيتْرَة» خاصة (ما دام أنه أنَّثَها!!). وهو ما يثير السؤال عن المقاييس التي استخدمها لوصف ذلك كله بأنه ينتمي إلى «اللغة العربية الفصحى». وسأتابع النقاش في مقال تال.