عرضت في المقال السابق بعضَ العيوب المنهجية في «كتاب» «الدكتور» إبراهيم التركي. وهي عيوب لا يمكن أن تخفى على أي متصفح عابر. ويَفرض وضوحُ تلك العيوب التساؤلَ عن عدم ملاحظة الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي أيا منها، وجرأتِه على كتابة مقدمة منمقة ربما تصلح مقدمة لأي كتاب إلا هذا «الكتاب». كما يَفرض هذا التناقض بين المقدمة المنمقة و»الكتاب» الذي ينوء بالعيوب المنهجية التفكيرَ في بعض الاحتمالات لتفسير هذه التصرف غير المتوقع. وأول هذه الاحتمالات أن وقت الأستاذ الدكتور الغذامي الثمين لم يتسع لمثل التتبع الذي قمت به في مقالي السابق، وهو ما يحتاج إلى تدقيق ومراجعة ومقارنة، أو أنه عدَّ هذه العيوب أمورا تافهة لا يهتم بها من هو في مقامه. وهذا الاحتمال غيرُ متصوَّر من مثقف كبير وأستاذ جامعي مرموق يتوفر على «خبرة» أكاديمية تقرب من أربعين سنة في البحث والتدريس، ويفترض فيه الجدية والموضوعية والالتزام بالأعراف المنهجية، خاصة أنه يصف نفسه دائما ب»أستاذ النظرية». (لا يوجد في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود أيُّ «مقرَّر»، باسم «النظرية». فاستئثار الأستاذ الدكتور الغذامي بهذا الوصف، إذن، لا يزيد عن كونه تفخيماً للذات وتمييزاً لها بوصف غير صحيح). والاحتمال الثاني أن الأستاذ الدكتور الغذامي لم يقرأ الكتاب فعلاً، وكتب المقدمة كما اتفق. ويتنافى هذا الاحتمال مع قول «المؤلِّف» إن الأستاذ الدكتور الغذامي: «أعطى الكتاب من وقته ورؤيته وناقش صاحبه نقاشاً أكاديمياً تفصيلياً، استعرض جميع فصول الكتاب»(ص11). كما يتنافى مع تصريح الأستاذ الدكتور الغذامي نفسه بأنه بدأ: «في تقليب الكتاب، وما هي سوى صفحات حتى وجدت نفسي أنساق بتلقائية نفسية مرنة وراء باقي الصفحات، ولم أشعر بمزاحمة من لغته ولا بثقل من موضوعه». ومن هنا فالأستاذ الدكتور الغذامي لم يقرأ «الكتاب» وحسب، ولم تكن قراءته عابرة، ولم تكن «تقليباً» لصفحاته، بل كانت قراءة حقيقية «ممتعة». والاحتمال الثالث أن الأستاذ الدكتور الغذامي كتب تلك المقدمة تأسيساً على ثقته ب»المؤلف». لكن هذا، لو حدث، لكان غريباً على مثله. إذ تَفترض كتابةُ مقدمة لكتاب الموضوعيةَ بشكل لازم، كما توجب على من يكتب مقدمة لكتاب أن يكون حصيفاً فلا يجعل مكانته العلمية ومصداقيته وأمانته ضحية للثقة العمياء. كما تفترض أن يكون ولاؤه للعلم أقوى من أي ولاء آخر. يضاف إلى ذلك أن التقديم لأي كتاب مسؤولية علمية وأخلاقية تتصل بثقة الناس بالمقدِّم واعتمادهم على رأيه فيه. وينفي احتمال وقوع الأستاذ الدكتور الغذامي ضحية للثقة ب»المؤلف»، أو لخداعه، تأكيد «المؤلف» وتأكيد الأستاذ الدكتور الغذامي نفسه أنه «قرأ» «الكتاب»، كما رأينا. ألا يثير تصريحُ الأستاذ الدكتور الغذامي بأنه استمتع بقراءة «الكتاب»، مما حمله على كتابة تلك المقدمة الطنانة، السؤالَ عن إمكان أن تكون تلك «القراءة»، التي لا صلة لها ب»الكتاب»، كما تصورها تلك المقدمة، نموذجا لقراءة الأستاذ الدكتور الغذامي للنصوص والكتب والأبحاث التي يقرأها والرسائل الجامعية التي أشرف عليها أو شارك في مناقشتها؟ أيمكن القول، بعد هذا، بأن «قراءة» الأستاذ الدكتور الغذامي تتمثل دائما، وأساسا، في «الاستمتاع» بما يقرأ، ثم إزاحته جانبا، ثم إطلاق العنان لخياله ليكتب «تصوُّرا» وهميّا عما «قرأه»؟ أيمكن القول بأن الثناء الباذخ على «الكتاب» و»مؤلّفه»، الذي يتنافى مع أبسط قيم الموضوعية والتواضع، يقدِّم مثالاً للثناء المفرط الذي اشتهر الأستاذ الدكتور الغذامي بإسباغه على من يرضى عنهم؟ كيف يمكن الثقة، بعد هذه القراءة، كما تصورها المقدمة الطنانة، التي لا صلة لها ب»الكتاب»، بالكتب التي ألفها الأستاذ الدكتور تأسيساً على قراءاته؟ كيف يمكن الثقة بمن يطلق لخياله العنان فيُخرج «الكتاب» و»مؤلِّفه» عن دائرة الممكنات البشرية ليدعي أنه قرأ «الكتاب»، ورأى أن «مؤلِّفه» «نال (الدكتوراة) قبل أن يتقلدها»(ص16)، وأن «الكتاب» من «الكتب والقضايا التي تطرح نفسها قبل أن نطرحها وتكتب نفسها قبل أن نكتبها، ولكننا حينما نكتبها بعد أن كتبت نفسها. . .»(ص17)؟ ألا تعد هذه الشعوذة اللغوية ستاراً يخفي قدراً هائلاً من التدليس لتغطية تواضع قدرات الأستاذ الدكتور الغذامي القرائية؟ لابد لهذه الأسئلة الجارحة، وغيرها، أن تخطر على ذهن من يقارن المقدمة الطنانة ب»الكتاب» الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه سوأة كان يجب على الأستاذ الدكتور الغذامي، قبل غيره، أن يتبرأ منها. ومما يستغرب له، إلى حد الدهشة، كذلك أن بعضَ الأمور الأخرى الواضحات التي كان متوقعاً أن يلتقطها الأستاذ الدكتور الغذامي بسرعة لم تلفت نظره. وأول تلك الأمور اسمُ «المشرف» على «الرسالة»، أي فريز شلعوط، الذي شكره «المؤلف» على دوره «في إكمال الرسالة»(ص11). أيمكن أن يخفى على الأستاذ الدكتور الغذامي أن هذا «المشرف» كان، ولا يزال، يقيم في الرياض، لا في الميسيسبي التي يزعم «المؤلف» أن «جامعة كولمبوس» التي «حصل» منها على «الدكتوراة» تقع فيها؟! كيف خفي على الأستاذ الدكتور الغذامي اشتهارُ فريز شلعوط ب»إشرافه»، لسنين طويلة، على عدد مما صار يُعرف ب»شهادات الدكتوراة الوهمية»، وارتباطُ اسمه ارتباطاً وثيقاً بالجامعة الوهمية المسماة ب «جامعة كولومبوس»، بفروعها الوهمية المختلفة؟! وإذا لم يكن ما تقدَّم كله كافياً للفت انتباه الأستاذ الدكتور الغذامي إلى ما في «الكتاب» من خلل، فكيف لم يلفت انتباهه ما يعرفه كل من درس في «أميركا!» أو اتصل بجامعاتها، مثله هو، من أن رسالة الدكتوراة لا يشرف عليها مشرف واحد، بل لجنة تتألف من خمسة مشرفين في العادة، ويكون أحدهم مشرفا رئيساً. كيف يفوته، إذن، اقتصار «الدكتور» التركي على شكر «أستاذ مشرف» واحد؟ وكيف يفوته أن «الدكتور» التركي لم يذكر «الجامعة» التي «تخرَّج» فيها في «صفحة الشكر»؟! ومن الأمور التي كان يجب أن تلف نظر الأستاذ الدكتور الغذامي مباشرة إلى أن هناك شيئاً غير طبيعي في «الكتاب» لغةُ الملخص الإنجليزي ل»الرسالة»(ص ص 174171). وهي لغة ركيكة جداً، وتذكِّر بترجمات مكاتب الترجمة التجارية الهزيلة. كيف لم يسبق إلى ذهن الأستاذ الدكتور الغذامي مباشرةً أنَّ من كتب ذلك الملخص الركيك لا يمكن أن يكون قد كتب «رسالة» دكتوراة باللغة الإنجليزية، في أي مكان من العالم؟! بقي سؤال بريء لابد منه، وهو: هل رأى الأستاذ الدكتور الغذامي «رسالة» «الدكتور» إبراهيم التركي بلغتها الإنجليزية، إن كان ثمة «رسالة»؟