التراث العربي موضوع قديم جديد هل مازال مثار بحث.. هل يمكن الاستفادة من دراسة التراث في عصرنا الحالي.. وإلى أي مدى.. وفي أي المجالات..؟ قد تثير هذه الأسئلة البعض خاصة لمن ينادي بالحداثة ومواكبة التطورات؛ بينما يعيد التأكيد على هذا الموضوع العاملون في حقل الأمور الأدبية ويصرون على استقراء التراث بطرق جديدة تواكب التطورات حتى تتبوأ العربية وأهلها، وعلومها المكانة التي كانت عليها في الماضي لرفع التحديات، التي تواجه الهوية العربية ويطالب البعض بأن تراجع المشاريع والمناهج لإعادة قراءة التراث بمختلف أشكاله للتغلب على تلك التحديات التي تزداد كل يوم، لاسيما إن اعتبرنا تحديات تكنولوجيات العولمة تتوعدنا بما لا يمكن أن يتصور. ولعل هذا الموضوع والتأكيد على إعادة قراءة التراث ومنها اللغوي تحديدًا جاء ضمن ندوة اللسانيات التي نظمها مجمع اللغة العربية في دمشق وانتهت مؤخرًا وموضوعها إعادة قراءة تراثنا اللغوي. عن هذا الموضوع عرضت الدكتورة لبانة مشوح عضو مجمع اللغة العربية شذرات من التراث العربي في ضوء اللسانيات الحديثة بقولها: التراث اللغوي لدينا هو تراث عظيم وأثر باقٍ على صروف الدهر، وليس هذا بغرض تضخيم قيمته الإبداعية بالمغالاة في الاستنباط والتأويل ولا لإسقاط مفاهيم لسانية دخيلة عليه، بل تأكيدًا لقيمته العلمية، وتقليصًا للهوة التي يرى البعض أنها تفصله عن العلوم اللسانية الحديثة، وتأكيدًا لأهمية الإفادة من النظريات الحديثة في إعادة قراءة تراثنا اللغوي للوصول إلى فهم أفضل للغتنا العربية والتعمق في قواعدها الناظمة، إذ من غير الممكن تطوير الدراسات اللغوية باستخدام أدوات قديمة على أهميتها المنهجية والتاريخية. وتمضي الدكتورة مشوح مضيفة: إن مشعل الحضارة الإنسانية من العرب إلى الغرب انتقل في كل ميادين المعرفة إلا في التفكير اللغوي إذ لا نجد أي ذكر للتراث اللغوي العربي عند التأريخ للسانيات، ولو أن الغرب تنبه إلى نظرية العرب في اللغويات العامة واستسقى منها مفاهيمها الأساسية لاختصرت اللسانيات المعاصرة المسافات، ولتجنبت الكثير من العثرات والهفوات، لأن العودة للتراث اللغوي العربي من شأنه أن يرفد الجهود الرامية لإيجاد مقابلات عربية لفيض من اللسانيات الأجنبية الوافدة، فضلاً عن أن النظر إلى التراث اللغوي من زاوية العلوم اللسانية يدحض زعم من زعم أن ثمة هوة تفصل علوم العربية عن اللسانيات الحديثة، مدّعين أن النظريات اللسانية إنما وجدت لألسن أخرى لا رابط بينها وبين العربية. وتضيف لبانة: إن بعض المفاهيم اللغوية عند القدماء هي قريبة من مفاهيم حديثة أطلقتها اللسانيات منذ نشوئها كعلم قائم بذاته، فقد التقى العرب واللسانيات الحديثة على اعتبار أن للظاهرة اللغوية وارتباطها بالإنسان بعدين اثنين الأول كوني، والثاني بيولوجي يتمثل في تهيؤ الإنسان واستعداده الخلقي لإتمام الظاهرة اللغوية وهو تمامًا ما اصطلح عليه ابن جني بقابلية النفوس، وإن الربط بين اللغة والعقل، والعقل والإنسان إنما استلهمته النظرية التوليدية الحديثة من فلسفة ديكارت، وقد سبق ديكارت ابن حزم إلى ربط الوجود باللغة عبر الفكر، حين جعلها قوام وجود الإنسان وقد عبّر عنها أيضًا د. عبدالسلام المسدي عن ذلك بمقولة صاغها عن ابن حزم وهي : أنا أتكلم إذًا أنا أعقل، إذًا أنا موجود. وهو لا يتناقض في جوهره مع ما ذهب إليه الجرجاني من أنه لا طريق للعقل إلاّ بالتعليم ولا يمكن الحديث عن علاقة العقل باللغة دون التطرق لنظرية المواضعة والاعتباطية بين الدال والمدلول، التي باتت من المسلمات في النظريات اللسانية، حيث نجدها تحت مسمى «اعتباط العلاقة اللسانية» وقد عولجت مسألة المواضعة بإسهاب في التراث العربي اللغوي، إذ أدرك القدماء أنها مرهونة في علة وجودها، بتشارك كل من المرسل والمتلقي في المخزون الذهني المتعلق بها، وهذا ماعناه السكاكي بقوله: إن اللغة لا تفيد مباشرة بواسطة الوضع، وإنما الاقتضاء الناتج عن الوضع. وفي التراث اللغوي العربي كما في اللسانيات، لا يكتمل الحدث اللساني إلاّ إذا تكامل فيه شرطا المواضعة والقصد، ويعبر تشومسكي عن هذين الشرطين في صياغة رياضية مجردة بمبدأ كلي أسماه «مبدأ التحقق»، وهو كناية عن عملية ذهنية رياضية مجردة تضمن التحقق من تكامل شرطي المواضعة والنص. وأشارت د. مشوح إلى أنه على صعيد الدراسة المنهجية الموضوعية للغة شيّد النحاة واللغويون العرب صرحًا عظيمًا من قواعد العربية نحوًا وصرفًا وصوتًا، وبذلوا جهودًا جبارة في التقعيد والتصنيف والشروح فاتّسعت العلوم اللغوية إلى حد التضخم والتقعيد والتكرار والإبهام، حتى حدود التناقض أحيانًا، إلاّ أن هذا لم يفقدها أهميتها في أعين الدراسين والباحثين اللسانيين المحدثين، الذين لا ينفكون يعدونها المرجع الأول والأهم الذي يعتد به في استقاء الأمثلة واستخراج المعطيات النحوية والصرفية والدلالية، لاستبيان الفصيح من المختل والصحيح من المنحول. وما أنجزه العلماء العرب في مجال الدراسات الصوتية، بدءًا من القرن السابع الميلادي من تقسيم للأصوات وتصنيفها ووصفها بحسب خصائصها وسماتها المميزة، وخصوصًا على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي في مقدمة كتابه «العين» وسيبويه في كتابه وابن جني في «خصائصه» وفي سر «صناعة الإعراب» قد هيأ السبيل لبلورة الصوتيات، كما صاغها فرديناندود سوسور وبلومفيلد، وهو علم دراسة الأصوات التي تجري في الكلام من حيث هي حركات عضوية مقترنة بنغمات صوتية، إذ تميزت مدرسة الفراهيدي باعتماد المنطق الرياضي في وصف اللغة، كما هو شأن النحو التوليدي الذي استند بشكل أساسي إلى نظرية ديكارت الرياضية، في مقاربة اللغة وتحليل علاقاتها، كما تنبه النحاة العرب إلى ظواهر لغوية مفتاحية وصاغوا لها قواعد أظهرت الدراسات اللسانية فيما بعد أنها قواعد شمولية تخضع لها كل اللغات. وتختم مشوح بقولها: إن ما سبق ذكره يدفع البعض لافتراض أن لسانيي القرن العشرين الذين أسسوا لهذا العلم، لابد أن يكونوا قد اطلعوا على نتاج هذا الفكر اللغوي العظيم فبنوا عليه، لأن ما وقعنا عليه من نقاط تقارب وتشابه إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الفكر الإنساني العلمي يتقاطع ليلتقي عند الحقيقة.