دار نقاش مع بعض الأبناء عن الورد، فاختار كل منهم لوناً وقلل من شأن ألوان أخرى، وبعد جدال بينهم عن اللون المفضل لكل منهم، سألتهم هل يرى أحدكم لونه المفضل أجمل إذا كان وحده، أم إنه يزداد جمالاً إذا كان بين ألوان أخرى؟ فاتفقنا على أن لوننا المفضل سيزداد جمالاً وبهاء إذا كان ضمن باقة ملونة فيها ألوان متعددة ومختلفة. وقد سُئلتْ إحدى الأمهات كبيرات السن عن أبنائها أيهم أفضل وأحسن؟ فأجابت بعفوية وتلقائية حنكتها التجارب والسنين: كلهم حلوين، علماً بأن فيهم المتعلم وفيهم دون ذلك، وفيهم حسن الخلق وسيئه معها، وفيهم الكريم بماله أو وقته وكذلك البخيل؛ ومع جميع ذلك رأت أنه يمكن أن تنظر إليهم جمعياً بنظرة الودّ، وتتقبلهم ولا تلغي أحداً منهم من حساباتها، وأن تتسع لهم جميعاً مشاعر أمومتها ودعواتها وترقب صلاحهم ونجاحهم في صبر لا يتحمله إلا الأم. «وش فريقك؟».. حينما كنا صغاراً منذ سنوات خلت، كنا عندما يتعارف اثنان يبادر أحدهما بسؤال الآخر أنت هلالي ولا نصراوي؟ (وقِس على ذلك بقية الأندية المتنافسة)؟ وبناء على جوابه يتحدد الموقف من اتخاذه صديقاً أو البحث عن آخر، رغم أنه قد لا يتقن اللعب وقد لا يعرف شيئاً عن اللاعبين في فريقه الذي اختاره؛ ثم يكبر هؤلاء ويستمر مع بعضهم هذا الموقف من الآخرين، لكنه يخف في الجانب الرياضي، وينتقل إلى جوانب أخرى في الحياة، ومنها ما حدث من تصنيف للدعاة وطلبة العلم في فترة مضت وانقسام الناس بين هذا الداعية وانحياز آخرين إلى غيره، وأذكر أنه في تلك الفترة ألف الشيخ بكر أبوزيد (رحمه الله) كتاباً عن تصنيف الناس بين الظن واليقين لكثرة ما عاناه المجتمع بسبب هذه المشكلة التي زاد سؤال الناس للمشايخ عنها، وهذا التحيز والرغبة في تصنيف الناس إلى ما نراه الآن في المشهد الثقافي من تحديد نوع الآخر «إسلامي متشدد أو حزبي أو ليبرالي أو علماني»، وبناء عليه يتم اتخاذ الموقف منه ويلقي بظلاله على كثير من جوانب الحياة، ومع الأسف فإنه قد يستمر طوال العمر دون معرفة لحقيقة هذا الآخر الذي صنفناه في الضفة الأخرى لمجرد موقف أو كلمة؛ ومن طريف ما يُذكر في ذلك أن أحدهم نشر مقالاً في بعض المنتديات لأحد مشاهير الليبراليين وتوالت الردود التي تكيل الشتائم له وتصمه بالكفر، ثم نشر المقال نفسه مرة أخرى باسم أحد الدعاة المشهورين فجاءت الردود التي تكيل المديح والثناء والدعاء له، مع أن المقال هو هو لم يتغير فيه حرف! حدد موقفك بسرعة.. إنك لتفاجأ في أحيان كثيرة حينما يحدث أمر ما أو تنزل نازلة أن يُطلب منك أن يكون لك رأي وأن تحدد موقفاً صارخاً، فأنت إما مع أو ضدّ، دونما مراعاة لجانب تمكنك من معرفة تفصيلات دقيقة أو حتى دونما حاجة أصلاً للتعليق على الموقف. ويفوت كثير من الناس أن كثيراً من المسائل يجب ألا يتعجل الإنسان في اتخاذ رأي فيها حتى يتبين له ما يقوله أهل العلم بها وأولو الرأي، وقد ذمّ الله (عز وجل) الذين يذيعون ما ينزل بهم دون رده إلى نبيه عليه الصلاة والسلام وإلى أولي العلم، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام كثير المشاورة لأصحابه، ونُقل عن عمر (رضي الله عنه) أنه كان يجمع أهل بدر حينما تنزل به نازلة. أفلا يفيدنا هذا الهدوء في وجه هذه الأعاصير النازلة بمجتمعنا وردّ الأمر إلى أهله وعدم اصطناع صدام ثقافي لا أصل له في أرض الواقع. المشهد الثقافي وعنق الزجاجة.. تلك الطريقة في تصنيف الأصدقاء والأعداء مع الأسف تسببت في حدوث ردّات فعل فأصبحنا نعيش بين فريقين متضادين يرمي كل منهما الآخر بالتهم وينسب إليه ما نحن فيه من ضعف وتأخر، ووصل الفريقان إلى عنق زجاجة فازدحما فيه ويكاد بعضهما أن يخنق الآخر، كل ذلك في قضايا ثقافية لا يعلم عنها عامة الناس شيئاً، ولا تشكل لهم شيئاً إلى جوار همومهم اليومية التي يعانونها، وضاع معنى الإصلاح الذي يدعيه الفريقان في خضم معارك «دون كيشوتيه» تضر المجتمع أكثر مما تفيده. وشعر المصلحون الصادقون بنوع من الإحباط لكثرة تشغيب جماهير الفريقين ضدهم. لمصلحة مَنْ هذا التهييج والتجييش؟ أشعر أن كثيراً من هذا التهييج والتجييش إنما يصنعه ويغذيه أشخاص إنما يقوم سوقهم ومكاسبهم المادية -والمعنوية- على مثل هذه المعارك دونما فائدة تُذكر للمجتمع، والفائدة إنما يجنيها المهيجون الذين لو لم يصطنعوا مثل هذه المعارك لعادوا أشخاصاً مغمورين لا يسأل عنهم أحد بعدما فقدوا شهرتهم. ومع ذلك فإني أخشى -ومعظم النار من مستصغر الشرر- أن يستمر هذا التهييج ليصل بنا إلى الانقسام الفكري حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، ويتكرر ما كنا نسمع به قبل عقدين من الزمن من حروب طاحنة بين الإخوة في البيت الواحد بسبب التعصب الكروي. ولمثل هذا دلائل كثيرة في التاريخ. ألا يصح أن نعيش جميعاً إخوة متحابين؟ أوجه هذا السؤال إلى من بيده قدرة على وقف هذا الصراع وهو واقف يراقب المدرجات ويتأخر تدخله حتى تشتبك الجماهير وتسيل دماؤهم ثم بعد ذلك يبدأ بدراسة الأسباب ويحاول وضع الحلول، مع أن الوقت كان متسعاً لديه طوال فترة المناوشات بين جماهير الفريقين! كما أوجه السؤال مرة أخرى إلى المتنفعين من هذه الخلافات الفكرية، الذين يجدون فيها إشباعاً لغرورهم ونزقهم وحبهم للشهرة والمال؛ خاصة بعد تلك الدعوات الرنانة التي صكوا بها أسماعنا طوال السنوات الماضية من الدعوة للتعايش مع الآخر، وكذلك بعض إخوتنا المتدينين الذين يرفعون أصواتهم بشكل عالٍ حينما ينكرون منكراً! فأقول ألا يصح أن نتعايش جميعاً إخوة مسلمين حتى مع هؤلاء الإخوة المختلفين معنا ونتآلف ونجتمع على أصول الدين التي نعتقدها جميعاً من أركان الإسلام وأركان الإيمان، ونحقق الإحسان بجميع معانيه دونما محاولات للتفريق فيما بين المسلمين؟ أليس ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؟ ألا يمكن أن نبذل هذه الجهود في تنمية أنفسنا ومجتمعنا وإصلاح مؤسساتنا وتهذيب أبنائنا؟ ألا يمكن أن نأخذ على أيدي السفهاء الذين يريدونها جذعة كلما خبت أو كادت والذين يفسدون ولا يصلحون؟ إنها دعوة للجميع للعودة إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المجتمع وصيانته.