التقسيمات التي نجمت عن اختلاف ألسنتكم وألوانكم ليكون هذا الاختلاف وسيلة لتعارفكم وتآلفكم وتعاونكم والدخول في دائرة نحن، أو أن الاختلاف هذا أو بيان هذا الاختلاف إنما هو تصنيف مؤقت يستخدم في حالة مؤقتة للإشارة إلى مواقف وأعمال ترفض وتقبل. وبالتالي فالتصنيف بحسب الأعمال لا يجعل من الإنسان "آخر"؛ ولكن يجعل من عمله شيئًا يمكن أن يوصف بالصلاح ويمكن أن يوصف بالفساد وما إليه، وبالتالي فهذا التصنيف لا يمكن أن يوجد ما يمكن اعتباره أساسًا لمفهوم الآخر. وإذا اختلف الناس إلى فرق وطوائف وأحزاب؛ فذلك لن يجعل من الفرقة أي فرقة (نحن) ويجعل من الفرق الأخرى (آخر) فذلك لا يمثل أساسًا أو منطلقًا أو دليلاً أو أصلاً من أصول الإسلام يسمح بهذا. فاختلاف المذهب واختلاف الطائفة واختلاف الدين واختلاف اللون واختلاف الفكر واختلاف التصور واختلاف ممارسة الحياة والمستوى المعاشي.. كلها أمور عارضة مضافة إلى إنسانية الإنسان وكينونيته وحقيقته. فلا يمكن أن تجعل من إنسان ذاتًا ومن إنسان آخر موضوعًا أو آخر، فكلكم لآدم وآدم من تراب ?... خلَقْناكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? (الحجرات: 13). إن من أخطر الأمور التي تجري عادة مجرى التداخل الثقافي فيغفل الكثيرون عن خطورتها هو هذا النوع من التداخل في المفاهيم بأن يؤخذ مفهوم نشأ في أحضان ثقافة معينة وفق رؤية كونية معينة، ونظرة إلى الحياة والإنسان مغايرة؛ ليُزرع ويستنبت كما تزرع الأجسام الغريبة في ثقافة أخرى. من هنا فإن المسلمين مطالبون أكثر من غيرهم والإسلام قد علمهم الدقة في اختيار المصطلحات وبناء المفاهيم، وأمرهم بمراعاة ذلك في سائر الأحوال أن يكونوا في غاية الحذر حينما يستخدمون مثل هذه الأمور. والفكر الذي بُني حول مفهوم الآخر في الفكر الغربي فكر له، وعليه. ولا شك أنه في بعضه إيجابيات معينة قد تمكن الاستفادة منها وتوظيفها، ولكن هناك فكر أيضًا نشأ حول هذا المفهوم وانطلاقًا منه لا يمكن للمنظور الثقافي الإسلامي ولا للنسق القياسي الإسلامي ولا للإطار المرجعي الإسلامي أن يتقبلها. فالآخر في نظر الديمقراطية الغربية -التي ولد هذا المفهوم ونشأ وترعرع فيها- لا بد أن يجري نوعًا من التعامل معه بأشكال ومستويات مختلفة بحسب الظروف، فهذا الآخر أحيانًا يكون هدفًا للحرب أو القتال؛ سواء أكانت حربًا وقائية أو حربًا استباقية. فيفترض المحارب أنه إذا لم يسبق إلى مقاتلة هذا الآخر فإن هذا الآخر في أية لحظة يشعر فيها بالقوة والقدرة فإنه سوف يهاجمه وسوف يعتدي عليه ويفعل فيه ما يفعل، قام على ذلك نظام احتواء الآخر أيضًا بطرق مختلفة متشعبة. "إذا لم تحتويه بالقوة فكيف تحتويه بالسلم" فجاءت كل الأفكار الداعية إلى تغيير الثقافات وتغيير البرامج التعليمية في العالم منبثقة من فرضية الآخر، نحن والآخر We People & The Others، فيُفترض بهذا الآخر دائمًا -بل من الذات- أنه مصدر عداء أو مستودع للعداء يمكن أن يحرك ويوجه في أي وقت من الأوقات؛ إذا لم تجْر الهيمنة عليه وتحويل وجهته أو تفريغ ما فيه من شحنات. فطرح فكر التعددية وطرح فكر الديمقراطية والليبرالية وكل هذه المنظومات الفكرية طرحت وهي تحاول بناء الذات في مقابل الآخر. وتحاول أن تجيب عن سؤال: "كيف أجعل الذات باستمرار قوية متينة راسخة؛ وكيف أجعل الآخر موضوعًا للاحتواء؟"، للاستضعاف، لممارسة ما يجعل "نحن" المتفوق دائمًا عليهم وربما كان لذلك أثره في جعل طبيعة الحضارة الغربية طبيعة صراعية تقوم على الصراع وتقوم على التوتر. بل تجد نفسها -إذا انتفت عوامل الصراع وتوقفت عوامل التوتر- في حالة ترهل أو في حالة استرخاء قد تهدد وجودها وتهدد كيانها كله. ولذلك فهي تحاول إذا لم تجد عوامل للتوتر وعوامل للتأزم التي تساعدها على أن تكون مشدودة على الدوام، مستعدة على الدوام للانتفاض على هذا الآخر الذي يتوقع منه باستمرار الأذى فإن ذلك يجعلها في حالة خطر. من هنا فإن هذه الحضارة إن وجدت عدوًّا فبها ونعمت؛ وذلك كما يقال عز الطلب. وإن لم تجد عدوًا فإنها تعمل على صناعته وتعمل على إيجاده كما تعمل على إيجاد المقويات أو الأركان والدعائم الذاتية لنفسها. فكلا الأمرين لا يمكن الفصل بينهما إذا أريد للحضارة أن تستمر وأن تزدهر وأن تستمر في فاعليتها وفي اندفاعها لا يوقفها شيء. إذا استطعنا أن نفهم أن المنظومة الفكرية الغربية.. إنما تنطلق من فكرة نحن والآخر أو الذات والموضوع. نكتشف أننا نحن المسلمين؛ كل السلبيات التي دخلت مجتمعاتنا قديمًا وحديثًا، وأوجدت عوامل صراع بيننا وربما أوجدت حتى التقاتل، بدءاً من القتال الذي جرى بين الصحابة (رضوان الله عليهم) والفتن التي تلت ذلك، وتفرق الأمة إنما نجم عن عامل آخر ليس هو ذلك العامل الذي يسمى ب"الآخر"، وإنما هو عامل آخر يلي ذلك العامل هو ما نص الباري سبحانه وتعالى عليه: ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ?