إنّ لنا مدرسة في العلم الشرعي معلومة، تعتمد الوسطية والاعتدال في الطرح العلمي والثقافي، وتنادي بالتسامح، عاشت زمنًا طويلاً ولا تزال، وتوارثتها الأجيال، الجيل بعد الجيل، هدفها الألفة بين المسلمين وإن اختلفت مذاهبهم أو طوائفهم، وقد أشاعت -ما أمكنها ذلك- هذه الثقافة عبر حلقات الدرس، حينما كان متاحًا لها أن تعقدها في الحرمين الشريفين ثم في المساجد، ثم انتقلت إلى حلقات درس معهودة، في دور البيوت العلمية المشهورة، وهذه المدرسة الرائعة هي مَن تخرّج على أيدي علمائها من طلبة العلم أمثالي، ونهمهم إلى تحصيل العلم جعلهم لا يقتصرون عليهم، بل أخذوا العلم من كل عالم خارج إطار مدرستهم، رغبة في تنوّع مصادرهم، وللاستزادة من العلم لخدمة هذا الدين ومعتنقيه، وهكذا كان الشأن عملاً دؤوبًا لتحصل العلم وتعليمه، ولما أحسسنا يومًا أن بعض طوائفنا في هذه البلاد تشعر بغبن، وترى أنها تضطهد، وتكثر شكواها، تواصلنا معها إيمانًا منا بأن هذا التواصل يمنع فرقة قد تحدث فتنة، وهو من مهام العلماء الذين يريدون الخير لأمتهم، لنبث بيننا وبينهم الاقتناع بأن الوسيلة المثلى لدرء خطر الفتن الطائفية هو التعايش، الذي لا يقتضي من أحد التحوّل عن مذهبه أو معتقده، يُعْلَى فيه شأن المواطنة، التي تعني حقوقًا متساوية لجميع المواطنين، وترفض أن تكون المذاهب وسيلة تمتطي لبث الكراهية والبغضاء بين الطوائف، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تتكاتف لبيان خطر ما يفعلون على مجتمعنا، وكنا نلتقي في المناسبات -خاصة الوطنية- برموز من تلك الطوائف، وأهمها الطائفة الشيعية شركاؤنا في الوطن، والدعوى التي حاولنا إبرازها دائمًا هو أن الوحدة الوطنية خط أحمر، لا نرضى أن يستهدفه أحد، فوحدة هذا الوطن إنّما تحققت بعد عناء، ولا يجب أن يفرّط فيها، فاستقرار الوطن ونماؤه هو الغاية الكبرى للجميع، ووجدنا من إخواننا الموافقة على ما ندعو إليه، ووصلنا الحبل الذي قطعه آخرون، بحصر مهمة أهل العلم في الردود على هذه الطائفة أو تلك، أو تكفيرها الذي كان ديدن فئة لم ترد الخير لهذا الوطن، وكان ممّن زعموا أنهم رموز صحوة إسلامية وقادتها، ممّن لهم مواقف عرفها جميع الناس كانت آثارها سلبية، لا يزال مجتمعنا يعاني منها حتى اليوم، لم يعجبهم ذلك، وأخذوا يقعون في أعراضنا حينًا بالتصريح، وأخرى باللمز والتلويح، وعدّوا ما نفعل جرمًا، وكنا نتناقش مع إخواننا من تلك الطوائف حتى في القضايا العلمية المختلف عليها، ولكننا لا ننهج نهج مَن يرى أن الدعوة إلى الخير لا تتم إلاّ عبر تكفير المخالف وتبديعه وتفسيقه، بل نبرأ إلى الله من هذا المنهج، وندعو إلى نبذه، فنحن -بحمدالله- دعاة ألفة لا فرقة، ودعاة وحدة وطنية إن تعذر أن نتوحد مذهبيًّا، لا نتنازل عن حق نعتقده، عليه جمهور الأمة، بل ندعو إليه بحكمة وموعظة حسنة، فلمّا لم يعجب إخواننا من الصحويين المتسلفة مسلكنا، عابوا علينا هذا التواصل، ولا أزال أتذكر أحدهم وقد شاركته لقاءً تلفزيونيًّا، فعاب عليَّ أن أجالس الشيعة، بل لم نلبث إلاّ بعض الوقت، فإذا به يزور إخواننا في القطيف، كما ثارت ثائرته مع مؤيده علينا حينما قلنا إن تواجد النساء مع الرجال في مكان واحد أصله الحل، وأن ما يسمى الاختلاط عند البعض لا مفهوم له في الشرع، ولكنه لم يلبث أن زار دولة شقيقية ليحضر مناسبة نسائية لم يحضر فيها سواهن، ضاحكهنّ، وروى النكات لهنّ، وها نحن نرى بعده رتلاً من هؤلاء يذهبون إلى القطيف، فإن لم يُستقبلوا، سعوا إلى أن يُستقبلوا بشتى الأساليب، وآخرهم أثارت زيارته للمنطقة احتجاج الغالبية من أبناء الطائفة لسبق مواقف له منهم يرونها جارحة لكرامتهم، ولو ذهبت أحصي ما عادوا إليه ممّا كنا نعلنه ونطرحه، لاقتضى هذا عدة مقالات، كنا نقول إن الجهاد لا يتخذ قراره الأفراد، وإنما يعلنه ولي الأمر حين الحاجة إليه، ونصحنا شبابنا حين اندلاع الحروب في بعض أقطارنا الإسلامية، وقلنا لهم إن الجهاد فرض عين على من حضر العدو إلى أرضه، وأنهم لا يحل لهم الارتحال إلى تلك الديار للجهاد إلاَّ بإذن، قالوا عنا إننا المثبطون للجهاد، ثم عادوا إلى ما نقول ولم يعتذروا، وحينما قلنا إن قتل النفس بدعوى الجهاد جريمة، لم يرتضوا قولنا، وشنّعوا علينا، ثم عادوا إلى ما قلنا ولم يعتذروا، هكذا هم يغيّرون مواقفهم بعد أن ادّعوا أنها الحق الذي لا مرية فيه، وبعد أن حملوا على مَن خالفهم فيها، بل واتّهموه بشتّى التُّهم، فإذا هم يصنعون ما يصنع، دون أن يعتذروا عن ذلك، غرّتهم أنفسهم فلم يروا سواها، وحتمًا لم تنتفع الأمة من مواقفهم الأولى المتشنّجة، ولن تنتفع من مواقفهم المستجدة ضدها، والناس لا يثقون بالمترددين فهلّا انتبهوا لذلك؟ هو ما نرجو، والله ولي التوفيق.