إن هذه الرؤية (الاعتقالية) التي تريد أن تعتقل المرأة، هي ذاتها الرؤية التي تريد اعتقال المجتمع، ورهنه لحساباتها الخاصة. ولم تقع المرأة فريسة سهلة لهذا الخطاب العنصري، إلا لأنها تقع في المهمش الاجتماعي أصلا، بحيث يمارس الجميع عليها طقوس الهيمنة، بل والامتهان. لم يكن ما رأيناه من هذا الرجل في حق المرأة استثناء من سياق خطابه، خطابه الذي يمارس العنف تجاه الآخر، أيا كان هذا الآخر ؛ امرأة كان، أو مذهبا، أو دينا، أو عرقا. فكل هؤلاء - في نظره - في دوائر النفي والإقصاء. هذا العنف الفكري الذي يتناسل في كل الاتجاهات، يحتاج إلى عنف مادي، يرسي قواعده، ويحفظ جناب التقليدية ؛ كما يقولون في أدبياتهم. ولهذا، كان الجهاد هو العباءة التي يستترون خلفها ؛ لتجنيد الأتباع. ولكن، الجهاد - اليوم - أصبح منوطا بأنظمة الجهاد الحديثة (الجيوش النظامية)، أي أنه - كغيره من مفردات الشريعة - أصبح وجوده من خلال النظام المدني للجماعة / المجتمع، الذي لم يعد يقبل، ولا يحتمل الخيارات الفردية، ولا النزوات الخاصة. وبهذا، لم يعد - شرعا - في يد هذا وأمثاله، تجنيد الأتباع، ولا تهييج الرعاع. وهنا يأتي دور الأدلجة التي تحاول الالتفاف على هذا الواقع، هذا الواقع الذي جعل الجهاد (الدفاع المسلح) من مهام الجيش النظامي ؛ حتى وإن لم يمارس الفعل القتالي، فهذا يخضع لموازنات أخرى، ولا يخرجه من هذا الاختصاص، ولا ينقل بعض مهامه إلى الجيوب العشوائية ؛ لأنها تعني - بكل وضوح - حتمية الدمار، وقيام شريعة الغاب. وهذا ما يحاولون التعمية عليه، أو تغطيته تحت مسوح المقدس، وذكريات التاريخ المجيد. وهنا ينتقل الإنسان بوعيه إلى التاريخ، وينسى الواقع أو يغيب عنه، حتى يصبح فريسة لهؤلاء، يمزقون أشلاءه ما بين كابول وبغداد، مرورا بالصومال ونهر البارد...إلخ. تبدأ عملية التضليل، باستخدام مقولات شرعية، أو تتماس مع الشرعي. لكنها توضع في السياق الخاص، بحيث تنقض الواقع المدني، وتؤسس لواقع الميليشيات التي تأتمر بأمر هذه العمامة أو تلك العباءة. مقولة : الجهاد فريضة، ماض إلى قيام الساعة، مقولة صحيحة في السياق الشرعي، وصحيحة - أيضا - في السياق الواقعي. لكن، صحتها مشروطة بمقاصد الجهاد من جهة، وبسياقات الواقع من جهة. فإذا كان جهاد الطلب يتغيا تبليغ الشريعة، فقد أصبحت إمكانات الاتصال المعاصرة، كفيلة بتحقيق الغاية، أكثر من أي عصر مضى من عصور الإسلام. وإذا كان جهاد دفع، فالجيوش النظامية لا تسمح لأحد باختراق مجالها الخاص، وهي جاهزة في كل بلد معترف به، ولن يتم الاستغناء عنها، إلا في حال تحقق المقصد الدفاعي / الجهادي، بما هو أقل تكلفة، وأجدى نفعاً. إذن، فمقولة : الجهاد ماض إلى قيام الساعة، حقيقة شرعية، وحقيقة واقعية في مضمونها، ولكنها موضوع التباس في تشكلها الراهن، وموضوع إرهاب ؛ كما يريد لها متطرفو الغفوة أن تكون. هم لا يدعون إلى المقصد الجهادي، ولا إلى التضحية في سبيل الله، بقدر ما يدعون - من طرف خفي - إلى صناعة العناصر الأولية، لتكوين الميليشيات التي (يرهبون) بها الناس. الجهاد ماض إلى قيام الساعة، يريده الإسلام تبليغ رسالة، وحماية واعية بالشرط الواقعي، بينما يريده دعاة التطرف، أحزمة ناسفة، وسيارات مفخخة تقتل الآمنين. لقد أدرك هذا الرجل وأمثاله، أن التفكير العقلاني المعاصر في مسألة الجهاد، سيسحب البساط من تحت قدميه. لا يريد للجهاد أن يكون مسؤولية دولة ونظام ومجتمع واع، وإنما يريد له أن يكون على هيئة تشكيل عصابات، تتدرب في هذا البلد أو ذاك. وهذا ما جعله يهاجم كل من يحاول تصحيح المفاهيم، على أساس من الشرع والعقل، محاولا إيهام جماهيره بأنهم ليسوا مجرد مختلفين معه، أو مخالفين له، وإنما هم - في ادعائه - أعداء الله. يقول عن بعض المفكرين : (فلا عجب أن تجد بعض هؤلاء يوالي أعداء الله ويحارب أولياءه "لاحظ، حضور مفهوم الولاء والبراء، ومن ثم فهم كفار في نظره ؛ لارتكابهم هذا الناقض من نواقض الإسلام!" وينكر الجهاد أو بعضه"لاحظ : التضليل أو التكفير هنا، يطال من ينكر بعض الجهاد الذي رفضه العلماء" ويصم أهل المنهج الحق "دوغمائية" من المسلمين الطيبين "يقصد تزكية نفسه وأتباعه" بالتطرف والإرهاب المذموم). هذا النص - على قصره - يعكس الطريقة البراجماتية لهؤلاء، وكيف تصبح مفردة الجهاد المقدسة، مفتاحا للدخول على التصنيف، وصنع إيديولوجيا الإرهاب. فلا أحد ينكر الجهاد من حيث المضمون، ولكنه يقصد هنا : العلماء المعتدلين، الذين ينكرون التطبيقات التي تتلبس بالمقدس الجهادي. ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء المعتدلون مؤيدين انضمام دولهم إلى الهيئات الدولية، ومؤيدين لالتزامها بشروط هذه الهيئات، التي تمنحهم الشرعية التي تعود عليهم بالكثير. لكن، هذا وأمثاله، يعدون هذا مولاة لأعداء الله، وحربا لأوليائه. تحت وقع هذه الاتهامات الجهنمية التي تلامس سقف التكفير، يتراجع الكثير من الناس عن إدانة الممارسات التي ترفع رايات المقدس الجهادي. يخشى كثير من الناس أن يوصموا بأنهم منكرون لفريضة الجهاد، وأنهم مرتكبون لناقض من نواقض الإسلام : الولاء والبراء. وهكذا، يسيرون خلف هذا التجييش الغفوي، إما عن قناعة بتطرف هذا الخطاب، وإما طلبا للسلامة، في زمن الردح الأصولي. ولكي يكون وقع مفردة الجهاد أشد تأثيرا في نفوس الجماهير الغفوية، فإن هذا الرجل يوردها في مذكرته (وهي في الأصل محاضرة) التي يتحدث فيها عن تخلف المسلمين. المسلمون مجروحون حتى الأعماق، من واقع تخلفهم الممتد لقرون. وهذا المنظر الغفوي يستغل هذا الجرح ؛ ليأتيهم بالحل السحري : التخلف سببه عدم الجهاد. ولهذا فطريق النهضة - كما يدعي - يبدأ بتربية أبنائنا على الجهاد. ما يسكت عنه هذا وأمثاله، هو أن الجيوش النظامية هي المؤسسة الشرعية، المعترف بها من الجميع ؛ لتربية أبنائنا على الجهاد، وعلى شروط الجهاد، وعلى تأطير السلوك الجهادي. هذا المسكوت عنه، مسكوت عنه تغافلاً ؛ لا غفلة. فهو صريح في أن كل بيت من بيوتنا، لا بد أن يكون معسكر تدريب وإعداد. يقول في مذكرته عن تخلف المسلمين : "أسألكم هل ربينا أبناءنا على الجهاد؟ هل ربيناهم على حب الجهاد؟ هل ربيناهم على الاستعداد للموت في سبيل الله؟ أتمنى ذلك". ثم يقول : "ولذا أقول لكم أيها الأخوة، ربوا أبناءكم على حب الجهاد في سبيل الله، والموت في سبيل الله". وكل شيء هنا، في سبيل الله، فلهذا الشعار إيقاعه الخاص في النفوس المؤمنة، وكلنا يتمنى أن يحيا في سبيل الله، وأن يموت في سبيل الله. ولهذا يسهل خداعنا بهذا الشعار، ويسهل تجنيدنا للحسابات الخاصة لهؤلاء. وهكذا يقع أبناؤنا بين أنياب هذا الخطاب، ويقدمون أرواحهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وبينما يصدّق أبناؤنا هذه الشعارات التي تنضح بالقداسة، ويُخدعون بها، نجد أن قائليها ومروجيها، لا يصدقون بها، ولا يعملون - بأنفسهم - على موضعتها في الواقع. إنهم يتمتعون بآخر ما أنتجته حضارة (الكفار) من وسائل الترفيه والترف، ويؤثرون على أنفسهم!، فيتمتعون بنساء هذه الدنيا ؛ بينما يرسلون من يصدق هذيانهم من شبابنا، إلى لقاء الحور العين. وكي يأخذ الإيحاء بالمهمة المقدسة مداه، فإنه يجعل التخلي عن هذه العسكرة، مقدمة تقود إلى حتمية استباحة (الأعداء!) لنا، بينما القيام بهذا العسكرة، هو سبيل النجاة الوحيد. كي يقتنع المتلقي بهذه العسكرة التي لها ثمن من راحته، بل ومن حياته، لا بد - في السياق التكتيكي لهذا وأمثاله - من وضع هذا المتلقي على حافة الخطر الموهوم، يقول : "أعداؤنا يحيكون لنا المؤامرات ونخشى أن ينقضوا علينا بين عشية وضحاها، أحاط بنا الأعداء إحاطة السوار بالمعصم . في الشرق أعداء وفي الغرب أعداء، في الجنوب أعداء، في الشمال أعداء، أين المفر؟". لا أدري أين هم هؤلاء الأعداء الذين يحيطون بنا من كل جانب. طبعا، الخيال الغفوي قادر على صنع هذا الوهم الكبير، وقادر على النفخ فيه، بفعل رخاوة العقل الجماهيري الغفوي، الذي يتمدد بهذه الأنفاس الساخنة حد الانفجار. إنها ليست عقلية مريضة بعقدة المؤامرة، وإنما هي جزء من محددات خطاب تجييشي، يعي أهمية جعل المتلقي في حالة : إحساس عميق بالخطر ؛ كي تتعطل عنده وسائل الإدراك العقلي، ويتلقى اللامعقول في حالة من التنويم أو التخدير، فلا يرى ولا يسمع، إلا إيقاع هذه النغمات الأصولية، التي ترى الجميع، وفي جميع الاتجاهات، ليسوا أكثر من أعداء، لا فرار منهم إلا بالجهاد!. وبما أن الشباب طاقة، فهو يحاول الاستيلاء عليها، بالمقارنة بين الهموم الشبابية الطبيعية التي تجنح إلى اللهو، والتمتع بالحياة، وبين همّ العسكرة ؛ حيث الاستعداد للتضحية بالحياة في سبيل الخطاب. إنه يضع الشاب - قسرا - في سياق المقارنة، بين لاعب و(مجاهد!) ؛ دونما أي اعتبار للظرفي، الذي يحكم مواقع التفضيل. يقول : "رأيت صورة في ملعب من الملاعب كتب تحتها : إن في الملعب أكثر من أربعين ألف متفرج. فتساءلت : لو نادى منادي الجهاد حيّ على الجهاد. كم سينطلق من هؤلاء الذين ناداهم منادي الشيطان فهرعوا له وأجابوا؟؟". وهكذا، لا يكتفي بهذه المفاضلة في حدودها البريئة أو شبه البريئة، بين (مجاهد!) ومتفرج على هذا النشاط الرياضي البريء، بل يضع هؤلاء في حزب الشيطان. لا أدري ماذا يقصد هنا بالجهاد. جهاد من، ضد من؟. هل يريد من هؤلاء الشباب أن يلتحقوا في معسكرات التدريب العسكري؟. إنه لو كان مهموما حقيقة بالدفاع ضد عدو حقيقي، ولو كان محايدا رصده لحالة الاستعداد للدفاع، لكان سؤاله ليس موجها إلى متفرجين في ملعب كرة، وإنما إلى القوات المسلحة النظامية، ولسأل : لو ناداهم منادي الجهاد للدفاع عنا، كم حجم الذين سيترددون؟. إنه يدرك أن الجواب لا يخدمه في هذا ؛ فالجميع ملزم في هذا بقوة النظام، وإنما يريد أن تكون هذه الجماهير التي لا تنخرط في نظام، مجندة له، تحت طلب الصراع الإيديولوجي، بحيث يستخدمها حينما يشاء. ربما يتصور بعضنا، ممن يحسن الظن بهذا وأمثاله، أنه يصدر مثل هذا التلهف على العسكرة ؛ لأنه في (حالة حرب!) مع أعداء محددين ؛ بعيدين عنا، مكانا، ودينا، وفكرا. لكنه لا شك سيفاجأ، حينما يسمع هذا يقول في إحدى مذكراته الملتهبة المحرضة بين أبناء البلد الواحد : "في بلاد التوحيد الرافضة، العلمانيون، المنافقون، الصوفية، كلهم الآن يعملون ليل نهار لشيء واحد ضد هذا الدين". على هذا النحو، يتم التصريح بالتكفير، لشرائح عريضة من مجتمعنا، بل لَيعبر بما هو أشد من الكفر، أي أنهم ليسوا مجرد مختلفين عنا في الدين، وإنما هم - في صريح قوله - يعملون ضد هذا الدين، أي أنهم كفار محاربون. وهذا ما يجعله يشعر أنه في حالة حرب خاصة، تستوجب العسكرة الخاصة ؛ لأن الجيش النظامي معني بالدفاع عن الجميع، وهو يريد حربا خاصة، ضد هؤلاء المواطنين الذين يضعهم في خانة : أعداء الإسلام. بقي الكثير، وهذا الجزء الأخير من هذا المقال. لكن، فيما أوردته من أقوال هذا الرجل بنصوصها، شواهد واقعية، ونماذج معبرة، نجد الكثير من أمثالها في هذا الخطاب المتطرف. وهذا الرجل ليس هامشيا في سياقهم، بل هو من منظّري الزمن الغفوي، ومن أكثر رموزه صراحة، وبقاء على مقولاته ؛ عكس غيره من زملاء المهنة، الذين يصدرون توبتهم عن مثل هذا التطرف بالتقسيط المريح. إن هذا الخطاب الذي رأينا نماذج منه، هو الذي شكل عقول الكثير من أبنائنا ولا يزال، وهو المسؤول الأول عن الإرهاب، حتى وإن تبرأ سدنته بلسان المقال، فلا زال لسان الحال يدينهم. وبعد كل هذا ؛ تبقى مشكلتنا أننا لا نزال نسأل - بعد كل هذا - : من أين يأتي الإرهاب؟.