بات الناقد المديني الدكتور محمد إبراهيم الدبيسي مرجعاً مهماً وضرورياً للتاريخ الثقافي والعلمي لمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن رحل عنا عبدالقدوس الأنصاري وياسين الخياري ومحمد الخطراوي فإن للمدينة المنورة طائفة من المهتمين بتاريخها الأدبي والاجتماعي والثقافي أمثال: عاصم حمدان وعبدالعزيز كعكي وسعيد طواله وناجي الانصاري وغيرهم ممن يعشقون رائحة المكان المديني. ولئن كان الدبيسي مهجوساً بهذه البقعة الطاهرة منذ أن أصدر جمهرة من المؤلفات المتميزة التي خص بها طيبة ومن هذه الكتب. «تاريخ الصحافة في المدينةالمنورة» و»حكاية حسن صيرفي سيرة وريادة» و»الوادي المبارك مرائي الشعر وجماليات المكان»، وغيرها من كتب في حب طيبة، وهو اليوم يؤكد هذا العشق ويثبت هذا الشوق وذلك من خلال كتابه الهام «مدار الكتابة» الصادر مؤخراً عن منشورات ضفاف ببيروت، والذي يدرس من خلاله جمهرة من النصوص التي غازلت المكان المديني وأغراها هذا المكان في الكتابة عنه والولوج في عوالمه وفضائه. فهو يحاور عدداً من النصوص الشعرية لكوكبة من شعراء طيبة الذين تغنوا بهذه البقعة المباركة، كما يقف عند الفنون والأنغام المستوحاة من العقيق وجماله، وكذلك يمضي الدبيسي في هذا الكتاب ليقف أمام نصوص سيرية وأخرى تاريخية ويتحدث عن ظواهر اجتماعية حواها البناء العمراني للمدينة المنورة ولا ينسى الحركة التعليمية الحديثة ممثلة في مدرسة العلوم الشرعية، كل ذلك برؤية معاصرة كاشفة عن استيعابه لهذه النصوص وإدراكه لمضامينها وإبرازه لجمالياتها. «ثقافة الرياض» وقفت معه في هذا الكتاب وطرحت عليه هذه الأسئلة. * تبرز معالم المدينةالمنورة (الحرم النبوي، قباء، أحد، العقيق)، حد التشابه في جل قصائد حسن صيرفي ومحمد هاشم رشيد، ما أبرز مظاهر الاختلاف بين هذين الشاعرين في تناولهما لهذه المعالم؟ - لم يكن الجيل الذي من أبرز شعرائه الصيرفي وهاشم رشيد, يتصورون وجودهم خارج المكان, ليس المكان المطلق - في إطار الرؤية الفلسفية- ولكن المكان المديني, بكليته وبمكوناته وبوجوده الحقيقي التاريخي والحضاري والروحي والجمالي, الذي ألهمهم الرؤى والمعاني والأحلام, وتجلى في نصوصهم على نحو يستدعي التأمل, حيث كان المكان المديني- ومن مفرداته المعالم الواردة في سؤالك- ملهماً ومحركاً بصائرهم نحو كشف مزيد من علاقة الإنسان بالمكان, الذي يتحول في النص الشعري إلى كينونة تمنح الإنسان معنى وجوده, وتصله بمباهج الحياة, وأظن الفكر الجدلي الفلسفي قد توقف كثيراً عند هذه الإشكالية. وكانت تلك الأماكن من مباهجهم ومشهد تأملاتهم التي لا تنتهي. فالإنسان يغيب ويزول وجوده, بينما المكان باقٍ لا يغيب ولا يزول, حتى عندما تندثر صوره ومعالمه وتفنى شواخصه, يبقى أثراً / طللاً يحوي القيمة القادرة على تفجير طاقات الوجدان الإنساني, وإيقاد ذكريات الإنسان وأشجانه, ولذلك كانت واستمرت الأطلال في مطالع القصائد في الشعر العربي؛ لافتة تشير إلى أصول الشعر العربي, وعهود اكتمال نموذجه البديع. والمكان يتجدد بتجدد السلالات البشرية التي استخلفت فيه وعَمرته. ويتنوع بتنوع الرؤى الإنسانية حوله؛ التي تهبه المعنى. وكأن المعنى لا يكتسب أبعاده القصوى إلا إذا استرفد المكان, كما يرى الدكتور حبيب مؤنسي, في دراسته القيمة:(فلسفة المكان في الشعر العربي). الأحوشة فكرة مدينية حَوَت وحمت مظاهر وقيماً في التعامل والتعايش الإنساني الخلاق وأظن مظاهر الاختلاف بين الشاعرين في تناولهما للمكان, تدور حول هذه الفرضية, التي أشرنا إلى طرف منه آنفاً, فالصيرفي أسرع في تحويل المكان إلى وجود شعري وأكثر تماس معه. تشغله مظاهره وتفاصيله, أما رشيد فأبطأ وربما أعمق في التداخل مع تلك المظاهر والتفاصيل. ويمكن لنا أن نقول إن اختلافهما اختلاف في الدرجة لا في النوع. * لماذا انفردت المدينةالمنورة عن سائر مدن الحجاز بوجود الأحوشة حتى أضحت لها دلالات ومفاهيم عميقة في المكون الاجتماعي المديني؟ - انفردت المدينة بذلك, لأن أحوشتها ليست مظهراً اقتضته دواعٍ وأسباب آنية في عهد تاريخي أو سياسي ينقضي, ولم تكن أشياء صرفة تنسحب عليها عوادي الزمن وتغيراته, التي تجرف الأشياء. كما لم تكن الأحوشة المدينية مظهراً نفعياً وظيفياً, اقتضته ظروف تاريخية وسياسية واجتماعية محضة؛ مرَّت بها المدينةالمنورة إبان القرن المليء بالتحولات, وهو الرابع عشر الهجري في تاريخ المدينة النبوية الطاهرة, كما يتردد كثيراً في مؤلفات المتأخرين. ولكنها مظهر حياتي هندسي ومعماري جمالي, ابتدعه المدينيون منذ القرن الثامن الهجري, بحسب المؤرخ والفقيه المدني المالكي ابن فرحون, والمؤرخ كبريت الحسيني اللذان حققا وحررا وجود هذا المكون الاجتماعي الفريد, الذي أفرز وحوى وحمى مظاهر وقيماً في التعامل والتعايش والتفاعل الإنساني الخلاق. وقد اقتضتها الطبيعة الجغرافية والديمغرافية للمدينة المنورة. وألِفها الإنسان المديني لأنها كانت في ذلك الوقت جزءاً أصيلاً من وجوده الحياتي, فبين جنباتها وساحاتها أبصر وجوده في الحياة في هذه المدينة. واستمرت الأحوشة المدينية حية وحيوية بمسافاتها ومواقعها وحدودها الجغرافية, وبمسافاتها ووقعها وأثرها في وعي ووجدان ذلك الإنسان, إلى نهاية العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري, حيث بدأت آلة ماكرة صماء سُميت (التطوير) بقضم الأحوشة ومحوها من الوجود. مثلما فعلت بمعالم وآثار ومكونات أخرى. ولم يبق للأحوشة وجود واقعي حقيقي, فيما ظلت حية في كتب المؤرخي, وقصائد الشعراء وسير الأدباء المدينيين وغير المدينيين. لأجل ذلك, انفردت المدينة (المسكينة) بهذا المكون عن سائر حواضر الحجاز. الأنغام المدينية لا تزال حية وحيية لم تنقطع ولكن تراعي شروطاً اجتماعية ما * تميل كتابات الشيخ علي الطنطاوي الرحلية إلى الاستشهاد بالموروث التاريخي والديني والأدبي, فكلما كتب فصلاً عن البقيع أو العقيق أو باب السلام، اغترف من محفوظه الثقافي، ما مرد ذلك؟ - مردُّ ذلك؛ الوجود التاريخي العتيق لهذه الأماكن, وعراقتها حضارياً, ولتحقق مكانتها نصياً في الآثار النبوية الحديثية, وفي النصين التاريخي والأدبي تراكم وتأكيد . ولأنها كذلك فقد تأملها العلامة الطنطاوي برؤية العالِم, وواءم في صياغة نصه الرحلي حولها بين تسجيل مشاهداته لها ووقوفه عليها وتقري تفاصيلها إبان رحلته للمدينة, وبين ما خبره عنها في النصوص التاريخية, والمعارف التي توافرت عليها شخصيته الأدبية. وجلُّ الأمكنة المدينية تتميز بهذه الخاصية؛ فهي تمتد حضوراً في أعماق الموروث التاريخي والديني والأدبي. ومن مظاهر التميز في بنية النص الرحلي للطنطاوي في هذه الأماكن, التداخل والتمازج النصي العفوي بين وقائع المُشاهدة المباشرة, ومخزونه الثقافي عنها؛ فينزل محفوظه التراثي النصي حولها على مظاهرها وكينونتها الحاضرة, ويعقد الموازنات بين سيرتها وماضيها في النص التراثي أياً كان مجاله, وبين واقع المشاهدة الآنية. ويتألق خياله الجمالي في صياغة وتقديم سيرة تلك الأماكن في نصِّه الرحلي؛ بشكل يستثير الدهشة والمتعة, ويحقق الفائدة في آن واحد. وكان وفياً لموقف ورؤية العالِم والمثقف في تكوينه, فاستنكر بصوت موضوعي صريح وحاسم, ما آل إليه حال تلك المعالم الآثارية من إهمال. وما شدَّه واستثار دهشته فيها من عراقة وجمال. مدرسة العلوم الشرعية صدَّرت النخب المثقفة والعالمة من العلماء ورواد الأدب * من خلال استقبال النقاد لتجربة حسين العروي الشعرية نلمس توافقاً وتقارباً بين آرائهم النقدية، كيف تأتي لهذا المديني كل ذلك التفرد وتجاوزه للسائد في عالم القوافي ألطيبة سر في ذلك؟ - تأتى له ذلك, لما حباه الله من موهبة إبداعية, ورؤية شعرية مائزة, غاير فيها سلفه وخلفه من الشعراء, إذ منح القصيدة البيتية مذاقاً مغايراً, وسار بها في سياق مختلف ومفارق لما تقرَّر في ذهن التلقي عنها, وحررها من قيود ومظاهر سلفيتها ونمطية تشكيلها, وتجاوز بها مألوف البناء التقليدي, إلى فضاء نصي يحوي قيم الحداثة بعنفوانها ومغامرتها, وسبرها للذات والعالم والحياة والأشياء. وجدلية علاقتها بالموروث الشعري, وتجدُّد حمولاتها تجاه فلسفة الشعر وأبعاد النص, بمعماره الفني ومضامينه, ومعجمه اللفظي من الدوال وصيغ التركيب, وحساسية الإيقاع, التي ابتدعتها قدراته الفنية وثراء مرجعيته اللغوية, وذائقته الأسلوبية. وما توافرت عليه تجربته الشعرية من قيم الخيال الخلاق, والتشكيل النصي العصي على الذوبان في – أو الاتساق والتماثل مع- مألوف القصيدة البيتية, ومستقر إيحاءاتها وحمولاتها الدلالية والجمالية الذهنية في الذاكرة. وبالمناسبة فحتى قصائده عن طيبة/المدينةالمنورة, فيها من عناصر المغايرة ما يرفعها إلى أفق رؤيته الشعرية الفريدة. * ما عهدتُ المدينة ذات نغم وفن، إلا حينما قرأت فصلاً مطولاً عن الغناء في المدينة أبرزت فيه حركة مهمة احتضنتها طيبة فكأني أشنف أذني بسماع تلك الأوتار المتمازجة مع الدفوف.. السؤال أين صدى تلك الرنات والإيقاعات هذه الأيام، حيث لم نسمع ذكراً للمدينة في هذا المضمار؟ - صداها عميق الغور في ذاكرة ووجدان المدينيين. ورناته وإيقاعاته نديَّة وطريَّة الأثر في ذائقة أجيال توارثت ذلك النغم, ووعت جلاله وجماله, وأصوله وتجلياته الممتدة من صوت الأذان المحمَّل بطهر ورحمة وجلال السماء, وفي الأناشيد والتواشيح الدينية الأخرى التي تحفل بها مقامات الذِّكر وتسابيح القوم بعيداً عن صلف وجفوة المهيمني, وفي المنتديات والصالونات الأدبية والغنائية في البيوتات المدينية, التي تأصل فيها النغم وتوقيعات الوتر قبل أكثر من خمسين عاماً. وسجَّل كتَّاب السِّير الذاتية المدينيين كمحمد حسين زيدان وعزيز ضياء, والأدباء والشعراء كحسن صيرفي ومحمد العيد الخطراوي, ودارسو الأدب كعاصم حمدان تجليات هذه الظاهرة الثقافية, بما يؤكد أصالة حضورها في بيئة المدينةالمنورة, وعناية المدينيين بها. ولاتزال حتى اليوم حية حيية, لم تذوِ أو تنقطع, ولكن تراعي شروط اجتماعية ما.. فرضتها حساسيات مستوردة ودخيلة على البيئة المدينية ونظامها الثقافي, وممانعات وعرة وغير موضوعية. تملك هيمنة إدارية وسلطان قهري جاف, هو بالضد من الفن والثقافة ومقتضياتهما. * إلى أي مدى ساهمت "مدرسة العلوم الشرعية" في بث الوعي العلمي والأدبي، وكيف أرست مفهوم التعليم النظامي في مدينة المصطفى؟ - هي الرائدة تاريخياً وثقافياً وعلمياً, وبرمزيتها المعرفية, منذ تأسيسها قبل أكثر من تسعين عاماً, في سنة (1340ه), على يد الشيخ أحمد الفيض أبادي طيب الله ثراه, وهي من عطايا ومكرمات المهاجرين الهنود, الذين وفدوا إلى المدينةالمنورة قبل ذلك التاريخ, توَّاقين ومتطلعين بصدق وهمَّة وحب إلى شرف وبركة الجوار, ليؤسسوا نواة علم وتنوير في المدينةالمنورة. وكانت المدرسة بذلك مصدراً للمعرفة والتنوير, تخرَّجت فيها النخب المثقفة والعالمة من العلماء والفقهاء, ورواد أدبنا الحديث, ومن خلالها عرفت المدينةالمنورة أرقى نظم التربية والتعليم, وقيم المعرفة الحقيقية, والتكافل الاجتماعي, وهي نموذج من نماذج وحدة وتنوع المجتمع المديني, وفاعلياته الحيوية؛ في إنتاج جيل مؤسَّس على مبادئ العلم والإنتاج. حيث كانت تدرِّس العلوم العربية والدينية, والفقه على المذاهب الأربعة, والعلوم الصناعية والمهارات الفنية, وكان الأثرياء الهنود ينفقون عليها بسخاء زلفى إلى الله تعالى, ومحبة لمدينة نبيه صلى الله عليه وسلم. وكانت مخرجاتها آنذاك, تضاهي أرقى الأكاديميات المتخصصة في عصرنا وربما تفوقها. ما زالت بعض الأسر في المدينة محافظة على الإرث المعرفي المقدس ولك أن تتصور أهميتها وشهرتها وعظم إسهامها في ترسيخ رسالة الإسلام, في الاهتمام بالعلم ونشر المعرفة وكفالة الأيتام ورعايتهم, وتحقيق متطلبات حياة الناس في ذلك الوقت. * هناك أسماء شعرية وأدبية هي في متن المشهد الثقافي المديني بل هي في صلب حركة التنوير بالمدينةالمنورة، أمثال: ضياء الدين رجب، عبدالعزيز الربيع، عزيز ضياء، محمد حسين زيدان، علي حافظ وغيرهم، أين هم من صفحات الكتاب؟ - لا يدَّعي الكتاب إحاطة بالمشهد الثقافي في المدينةالمنورة, ولا تتبعاً أو تقصياً للفاعلين في حركة التنوير, وإنما كان يستهدف التمثيل لظواهر أدبية شعرية وسردية, وقضايا ثقافية تعليمية وفنية وتأليف تأريخي, بما يشير لتلك الظواهر ويدل عليها, ويعرض نماذج لها, في سياق الحركة الثقافية بالمدينةالمنورة. أما الأسماء التي ذكرتها في السؤال, فهي بالعمق من تلك الحركة, ولم تكن الوحيدة فيها. وقيمة إسهامها ونوعيته مشهود لها بالتميز, والإضافة القيمة لمنسوب المد المعرفي بالمدينة. وقد خصصت لذلك كتاباً سيصدر قريباً بإذن الله. * تكتسي كتابات الأديب عاصم حمدان ملمحاً من ملامح تشكل القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في المدينةالمنورة فهو يعتني دوماً بتدوين فضائل المجتمع، أين نضع هذه الكتابات أفي السرد أم في اليوميات أم في السيرة؟ - اهتمامات أستاذنا الأديب الدكتور عاصم حمدان نحت إلى اتجاهي, أحدهما: الأبحاث والدراسات التي عُني بها بحركة الأدب الحديث بالمدينةالمنورة. وقد استوعبت دراساته تلك عديداً من القضايا والمراحل المهمة في مسيرة تلك الحركة. والاتجاه الآخر: كتابات سردية يمكن تصنيفها في إطار فن السيرة الذاتية, ك(هتاف من باب السلام, وذكريات من الحصوة, ورحلة الشوق في دروب العنبرية), والاتجاه الثاني تتحقق فيه الاشتراطات الفنية لهذا النسق من الفنون السردية. ومن الطبيعي أن يتسق الحديث عن الذات وتاريخها الشخصي, والتحولات التي مرت بها عبر الحياة, مع الطوابع والملامح والمكونات الاجتماعية, في إطار المكان الذي ترصد الذات الكاتبة حياتها فيه . أما تركيزه على (فضائل المجتمع) فله مسوغات وتفسيرات فنية, من الصعب بسطها في هذا المقام. * يراوح الأديب عاصم حمدان في كتاباته بين ضمير الغائب المروي عنه "الفتى" أو "صاحبنا" وبين الاسترسال في صيغ إخبارية تنضح بالحنين إلى الماضي، هل طبيعة الموقف وظروفه تحتم عليه ذلك؟ - استخدامه الفني للصيغ اللغوية التي ذكرتها, خيارات أسلوبية تتيحها له المعايير الفنية لنص السيرة الذاتية -أو ما سميته أنت اليوميات- ولأنه بصدد كتابة ذاته, أو الكتابة لها, أو عنها, فالحنين من القيم والدلالات المألوفة في نص السيرة الاستعادي, والنوستالجيا من أبرز مكونات النص السيري, الذي لا يستطيع صاحبه الفكاك من أثر الماضي وحمولاته , وهو بصدد تسجيل مراحل ذلك الماضي, وبعثه وإحياء إحساسه به من خلال الكتابة. ولأن الكاتب في معرض تسجيل سيرة حياته أو مراحل منها؛ فالموقف أو الحالة النفسية له, وتوهج وجدانه بذكريات الماضي أثناء عملية الاستعادة/الكتابة, تمكِّنه من التنويع في الصيغ الأسلوبية, واختيار الأدوات والدوال اللغوية, التي يراها أقرب وأقدر على استيعاب اللحظة والحالة الشعورية له, وأكثر قدرة أيضاً على إيصال المضمون للمتلقي, وإشراكه في تصور طبيعة الموقف, وإدراك المعنى. * ذكرت في ثنايا كتابك أن الشيخ حمد الجاسر ذكر أن المدينةالمنورة تضم (80) مكتبة وكل مكتبة تزخر بالمنصفات والمخطوطات وجلها خاصة لأدباء المدينة وعلمائها، ماذا عن هذه المكتبات هل مازال المدنيون يحفلون بالمكتبات في بيوتهم؟ - العناية بالكتاب تقليد أصيل راسخ في مجتمع المدينةالمنورة, منذ القرن الثاني عشر الهجري, حتى أواخر القرن الرابع عشر. يوم كان الكتاب وسيطاً وحيداً للمعرفة, وقد عُرفت البيوتات المدينية باهتمامها بالكتاب والمكتبات. وجمعت الأسر العلمية, وأعيان الوجهاء والمثقفين عدداً وافراً من أصول المراجع المطبوعة والمخطوطة, في مكتباتهم, وأوقف بعضهم هذه المكتبات خدمة للمعرفة ولطلاب العلم والباحثين. وتميزت أُسر مدينية كآل هاشم, والصافي, والبساطي, والخياري, والفيض أبادي, وغيرهم, باهتمامها بهذا المجال. واسترعت هذه الظاهرة الرحالة والباحثين والعلماء الذين زاروا المدينةالمنورة, في حقب خلت, بالإضافة إلى الشيخ حمد الجاسر. ويُشار هنا إلى الاهتمام الكبير والمخلص الذي أولاه الشيخ جعفر فقيه للمكتبات المدنية, وحرصه الصادق والدؤوب على المحافظة عليها, وجمع وصيانة ورعاية محتوياتها. وبعد وفاته أُودع بعضها مكتبة الملك عبدالعزيز. ثم توزعت جهات عديدة, هذه المسؤولية العظيمة, حتى آل الأمر إلى هدم المكتبة ونقلها من مكانها الاستراتيجي اللائق جوار المسجد النبوي الشريف, إلى مكان آخر, وهي في عهدة الجامعة الإسلامية اليوم . ومازالت بعض الأسر في المدينة ممن أسلفت الإشارة إليهم, محافظة أمينة على هذا الإرث المعرفي المقدس. وأظن أن ما تبقى من هذه المكتبات, باتت مطمعاً لبعض الجهات العلمية المتخصصة. وأتمنى ألا يصل هذا الطمع (العلمي), إلى حد تفريغ المدينة من هذا المكونات, وأن ينشأ فيها كيان مؤسسي مستقل, يحافظ على هذه القيمة المعرفية. لأنه لم يعد فيها من مكونات وملامح ماضيها الثقافي وموروثها العلمي؛ غير ما تبقَّى من تلك المكتبات. إن كان تبقى..! ومن غير المعقول يا أخي.. أن تتحول مجاورات المسجد النبوي الشريف, من محفل للمكتبات الزاهرة والعامرة بمدونات ومخطوطات العلماء, ونفائس الكتب والمراجع في جميع حقول المعرفة الإنسانية, والسير المضيئة لمؤسسيها في عهد مضى, إلى أبراج وعمارات وشواخص إسمنتية وزجاجية, تعتلي ذرواتها أسماء أعجمية لفنادق عالمية, ومن غير المعقول.. أن تعدم الساحات المحيطة بالمسجد الشريف؛ مكونات معرفية أسسها أصحابها لتبقى في المكان الذي اختاروه لها, ولتساند رسالة هذا المسجد العظيم. وتحفظ لمؤسسي المكتبات حقهم الديني الشرعي-المكتبات الوقفية-, وتحفظ لأي مسلم محب للمدينة وقادم إليها من أي مكان, حقه في أن يؤم مكتبة قرأ عنها يوماً.. أنها كانت بجوار الحرم.