بعينين حاذقتين حادتين، وملامح تشي عن وقار وهيبة، وصوت يختصر تجارب من خبر الحياة بخيرها وشرها، يطلُ "سيزر" عليك، يُذهلك بحكمة لم يؤتها كثير من بني آدم. يردد بصرامة "العائلة، المستقبل، الوطن". ثالوث يبتني عليه مشروع "سيزر"، ويروم من خلال تصرفاته الحفاظ على هذه الأقانيم الثلاث، لما تشكله كل واحدة من دعامة للآخر وأساسا له، من دون أيهما ينهار الآخر، ويفقد قيمته. "هنالك فرصة للسلام"، يقول "سيزر"، لأن برأيه الحرب لا جدوى منها، فهي تعبير عن عجز الكائنات والبشر سوية. الحروب دليل على أن لغة الحوار قد انقطعت، وأن الأطراف فشلت في تنظيم وحل خلافاتها، هي دليل عجز وبلادة وعدم مقدرة على اجتراح المخارج. من هنا، تستحيل الحرب عودة إلى التوحش والبدائية. هي ليست عودة للغابة بمفهومها التنظيمي الحيواني الوجودي، بل، هي عودة لغابِ الضِباعِ تحديدا، حيث الفتك، والغدر، والقهقة مكرا، والرقص على الجثث والمتفسخة والموات، والتطفل على حيوات الآخرين وانتهاكها. الحروب هي تعبير عن غياب "الثقة"، فالأخيرة هي أساس في بناء العلاقات بين الكائنات، بين البشر وما حولهم، وبينهم وبين الكون. ترى "سيزر" يمد يده مصافحا مالكوم، قائلا له "الثقة". ساعتها، من تصافحت هي القلوب والأرواح والعقول، وليس الأكف وحسب. حكمٌ عميقة تنهمر كالسيل النقي على لسان "سيزر". حكمٌ يستنكفُ كثير من البشر على سماعها أو الأخذ بها. فالبشر لا سيتمعون لحكمِ أمثالهم من بني جنسهم، فما بالك إذا أتت هذه الإرشادات الأخلاقية والحياتية من حيوان، هو ال"قرد". ولك أن تقرأ في مصنفات بني البشر آلاف الصفحات في ذم هذا الكائن وازدرائه وكيل الشتائم له. الاستعلاء هي سمة من سمات البشر، محاولين من خلالها إعلاء قيمتهم قبالة بعضهم البعض، وتجاه شركائهم في الكون الفسيح. وهو الاستعلاء الذي قاد لكثير من البطش وإراقة الدماء. الأمر الذي دفع المفكر اللبناني علي حرب في كتابه "لعبة المعنى.. فصول في نقد الإنسان"، إلى القول "نحنُ الوحيدون الذين نلوّث الطبيعة ونُفسد في الأرض ونسفك الدماء، جُرحت كبرياؤنا وقامت قيامتنا عندما تجرأ أحدنا على القول بأن القرد هو سلفنا، بل من أبناء عمومتنا، مع أن جماعة القردة أقل عدوانية من جماعة الناس، إن لم نقل أكثر مسالمةً". وحرب في نقده الآذع هذا، لم يكن بعيدا عن سلفه الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، والذي كان من جهة يبجل "القوة"، إلا أنه في ذات الوقت يزدري السلوك الإنساني القائم على الجهل الممزوج بالعنجهية، كما نقرأ له في سِفره الخالد "هكذا تكلم زرادشت"، حيث يقول "تاريخ الإنسان عارٌ في عار ...لقد اتجّهتم على طريقٍ مبدؤها الدودة ومنتهاها الإنسان، غير أنكم أبقيتم على جلّ ما تتصف به ديدان الأرض، لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى، على أن الإنسان أعرق من القرود في قرديته". حكمةُ القردِ "سيزر" في فيلم "بزوغ كوكب القردة"، من إخراج مات ريفز وتأليف مارك بوماك وريك جافا، هي تعبير عن الاشمئزاز من حالة الفتك التي وصلت لها البشرية في القرن الحديث. فعوضا عن أن تكون التقنية سبيلا للتقارب وتعمير الكون بقيم الخير والحداثة، نجد "ساقية الدم لا تكف عن الدوران"!. يأتي قردُ ليحرض "سيزر" على قتال البشر، إلا أن الأخير يرد "القردة لا تريد الحرب"، مبينا "القردة تتقاتل مع بعضها البعض، إلا أنها عائلة واحدة، والقرد لا يقتل قردا مثله"، ليضيف بحزم موجها كلامه لأنصاره "القردة ستساعد البشر"!. وهي المساعدة التي أعتقد أننا بالفعل في حاجة لها، عل البشر يعود المعتوهون منهم إلى رشدهم، ويستبدلون البنادق بالكتب!.