يظهر أن حالة المخاض متعسرة، فالوجه القادم للعلاقات الأمريكية - الإيرانية تتبدى ملامحه على استحياء، ويتشكل على مدار الساعة من خلال تصريحات متناقضة، متقاربة أحيانا ومتباعدة محتوى ومكاناً في أحايين أخرى. فمن امتداح للسياسة الإيرانية من قبل البيت الأبيض وأنها تملك رؤية واستراتيجية (يعني تعرف ماذا تريد)، إلى وعد إيراني بالاصطفاف إلى جانب أمريكا في محاربة داعش، إلى تراجع أمريكي عن التدخل العسكري، ومن ثم عتب وتحذير إيراني من أي تدخل لأمريكا في العراق. وكل ما يحدث من حراك قد يدخل في دائرة المناورات السياسية لأن الأمر من حيث المبدأ شبه محسوم. منذ أواخر عام 2001م وأنا أكتب عن مراجعة أمريكا لكثير من ثوابتها وقناعاتها، وأنها وصلت ليقين أن الشارع الإسلامي ليس معولا عليه في حماية مصالحها. أولئك الدعاة والوعاظ لايعتبرون المصالح المرسلة في اجتهادهم، وهو ما أوقع الإسلام والمسلمين في حرج كبير وأضر بالدعوة وبسمعة المسلمين، وأوجد مستوى من التشنج والاستعداء المتبادل في العلاقات الدولية. الأمريكيون وضعوا منذ عام 2005م بعد نشر مقالة حدود الدم والخرائط المرافقة لها خارطة طريق لمصالحهم المستقبلية ترتكز على إعادة توزيع الحدود؛ لتحقيق العدالة التي يرون أنه افتقدها التقسيم الفرنسي - البريطاني لدول المنطقة، وبذلك تحاول أن تحقق استقرارا مبنيا على المذهب الديني والتجانس العرقي وهو ما تتوقع أنه سيخفف من حدة الاحتقان ويعود عليها بالأمن فيما وراء المحيطات. خارطة المستقبل تلك بنيت أيضا على الحذر من الدول ذات الغالبية السنية، والتحول باتجاه إيرانوالعراق على اعتبار الغالبية الشيعية في محاولة لتأهيل وصي وحارس أمين على المصالح الأمريكية في المنطقة. التصريحات - الصادرة عن البيت الأبيض- الخجولة حينا، والمترددة أحيانا سببها الاختبارات التي تجريها أمريكا لمعرفة جدية "المندوب" الجديد، فإذا تمكنت إيران من جمع السنة والشيعة وإعادة الهدوء إلى العراق، وإنهاء النزاع في سورية، والتوافق إلى لبنان وآمنت بإسرائيل وعززت شرعية وجودها فإن إيران ستكون مؤهلة للعب أدوار جدية في المستقبل. أينما تلفتنا لانجد سوى آثار درست لما كان يعرف بدول الاعتدال أو الثقل العربي، فالمملكة تعمل جاهدة من أجل "أمن عربي" لم يعد موجودا إلا في بيانات القمم العربية، وهي محاطة بإسرائيل والعراق وسورية ولبنان واليمن التي تمتلك مفاتيح التوتر إما إيران أو أمريكا. من حق أمريكا أن تتحالف مع الشيطان لصيانة مصالحها، ذلك شأنها، إلا أنه في المقابل يجب امتلاك القوة لأنها اللغة الوحيدة المفهومة في علاقات الدول. فدول الخليج ومصر والأردن ملزمة بأن تعمل على تعهد قدراتها الدفاعية الذاتية، كما أن توجيه رسائل في هذا الشأن سوف يرفع المعنويات داخليا، وينشر بصيصا من الأمل في المحيط الإقليمي الذي فقد كياناته السياسية وأصبح في وضع من اليأس والإحباط وعدم الاستقرار وغياب الدولة يجعله ويتطلع إلى قوة واثقة من برنامجها المستقبلي ليتعلق بها. وأي تباطؤ في القرار السعودي الخليجي المصري سوف يصرف دولا تعاني من الضياع حاليا إلى التسليم بأن المنقذ الوحيد هو الحلف الجديد الأمريكي- الإيراني. لايستطيع عاقل أن يتجاهل تأثير القوة الأمريكية التي بيدها مقاليد الأمور العسكرية والاقتصادية والعلمية في العالم، ولا يطالب منصف بقطيعة مع صديق استراتيجي مهم، إلا أنه من الكياسة (أن نخربش) في جدار المسلّمات لنؤكد خياراتنا وقدرتنا على العيش بعيدا عن أمريكا. المملكة تتمتع بعوامل ثلاثة هي بدون أدنى شك ترجح كفة نجاحها في إدارة المرحلة؛ فهي عمق العالمين العربي والإسلامي بما في ذلك من دلالات يصعب تجاوزها، وهي قوة اقتصادية ضخمة تحرك الاقتصاد العالمي، وهي أخيرا تتمتع بلحمة داخلية والتفاف منقطع النظير للشعب حول قيادته. فإذا أضيف إلى ذلك قوة مصر وبناها العميقة، ودول الخليج مواجهة التحديات في هذا الحلف، فإنه -بحول الله- قادر على الخروج بعالمنا العربي إلى شواطئ السلامة بأقل قدر من الخسائر. التعويل على المناورات السياسية الأمريكية - الإيرانية والتصريحات التي تقرب البلدين حينا وتباعد بينهما أحيانا، وبشكل متسارع لن يؤدي سوى إلى فقدان عامل الوقت وضياع فرص الحسم، وتقديم المزيد من الدعم لهذا الحلف الجديد لينفرد بالقرار والنفوذ. إذا كانت أمريكا قد اختارات مسارها بعيدا عن أصدقائها التقليديين في المنطقة فما الذي يمنع من ممارسة خيارات يهتدى بها نحو مستقبل يضمن مصالح شعوب ودول المنطقة. تلك هي السياسة في مفهوم المصالح المتغيرة، ولسنا استثناء من القاعدة، وبروح رياضية لايمنع إن دعت الظروف أن نتعايش مع أمريكا كما يتعايش معها الروس والصينيون وغيرهم.