من أجمل الأوقات وأكثرها إثارة للمشاعر أوقات طلوع الشمس وغروبها ومايسبق ذلك من ألوان تملأ الفضاء بلوحات تشكيلية يعجز عن محاكاتها أمهر فنان.. في الشروق تدلف الشمس على الأرض في هدوء وخجل، وقد اصطبغ الأفق بألوان (الشفق) التي تجعل كل موجود له قلب يسبح باسم الخالق المعبود.. وفي الغروب تودع الشمس الأرض على مهل ووجل في (غسق) مدرج الألوان تتبادل فيه سُمْرة الليل المقبل وبياض النهار المدبر قبلات الوداع، وترسم فيه الشمس زرقة السماء وتضيف لها مختلف الألوان، وقد تختلط بسحاب رقيق يحجبها قليلاً كوجه عذراء عليها غطاء شفاف يزيدها بهاء، ولا تنسى الشمس قبل الوداع أن تمر على أغصان الأشجار والنخيل فتمسها بلون الذهب، وتداعب خضرتها اليافعة بأشعة خافتة رائعة كم تذكرت سويعات الأصيل وصدى الهمسات مابين النخيل الإيحاء.. وقد اعتاد الأحباب -على مر الزمان- أن تكون لحظات الأصيل لحظات لقاء جميل.. أو ذكرى عاطرة.. أو أماني تلاحق الشمس الغاربة.. وإذ تجرجر الشمس أذيالها الذهبية تقبل جموع البلابل والعصافير وأنواع الطيور الى أعشاشها في أعالي السّدر والشجر، وتُغني بأعذب الألحان تدعو أحبابها الى اللحاق بها وتُعلن أنه حان وقت اللقاء الهادئ العذب في العش الدافئ الأليف.. وهذا ما يتطلع له ويتمناه كل حبيب مع محبوبه! وسويعات الأصيل التي تسبق غروب الشمس بقليل، أجمل ماتكون في فصل الربيع، إذ تلمس الشمس بأطراف أصابعها الشجر والزهر، وتهمس للأحباء والأشياء، وتظهر في ناحية وتختفي في أخرى، ويهب النسيم العليل، ويهم النهار بالرحيل، ويهيم المحب شوقاً للقاء الليل، ويبدو الوجود في أصبى صباه، وتستيقظ الأحلام الوسنى، وتعذب الأماني النشوى، ويتضاعف جمال اللقاء وحلاوة الهمس والنجوى، ويرى المحبون الشمس حانية عليهم، والنسيم ناشراً نعيم لقائهم نامّاً عن عطورهم وحبورهم، فإذا حلّ الأصيل في الصحراء وقت الربيع فلا أجمل ولا أبهى.. يهبط الجمال على كل مكان، ويهيم الجميع بمنظر الجمال، ويفيض الوجود شعورا وشعراً وحباً، ويبدو مسرح الوجود حلو الغموض، رقيق الحواشي، صديق المحبين، فكأن الأصيل مسرح حب ينهال بالشوق والتشويق، وكأن أرجاء الصحراء -وقد زها نباتها وفاض جمالها وفاح مسكها- قد عانقت الحياة وامتزجت بها، وحين يهب نسيم النعيم ينم عمّا في تلك اللحظات من عطور وحبور.. وهمسات.. ومن أجمل القصائد في (سويعات الأصيل) وآثارها على القلب والوجدان قول الشاعرة سلطانة السديري - وقد شدا بهذه الأبيات طلال مداح بصوته الشجي: كم تذكرت سويعات الأصيل وصدى الهمسات ما بين النخيل أنت في حبك وأنا في حبي وأرى الذكرى دواء للعليل فاتق الله في حبي يا حبيب * * أنا ألقاك صباحا ومساء في خيالي أنت يا أحلى رجاء أنت لي حلم ونور وهناء فمتى يقضي بلقياك القضا لست أدري يا حبيب * * وأخيرا ليس لي غير الوداع همسة ظمأى على جمر التياع لم أجد يا حلو في كل البقاع لوعة أعنف من وقت الوداع فوداعا يا حبيب مشهد الغروب عند ابن الرمي: إذا رنَّقتْ شمسُ الأصيل ونفَّضتْ على الأفق الغربي ورساً مُذعذعا وودَّعت الدنيا لتقضي نحْبها وشوَّل باقي عمرها فتشعشعا ولاحظتِ النَّوارَ وهي مريضة ٌ وقد وضعتْ خدّاً إلى الأرض أضرعا كما لاحظتْ عُوَّاده عينُ مُدنفٍ توجَّع من أوصابه ما توجَّعا وظلّتْ عيونُ النَّور تَخْضلُّ بالندى كما اغرورقتْ عينُ الشَّجيِّ لتَدْمَعا يُراعينها صُوراً إليها روانياً ويلْحظنَ ألحاظاً من الشّجو خشَّعا وبيَّن إغضاءُ الفِراقِ عليهما كأنَّهما خِلاَّ صفاءٍ تَوَدّعا وقد ضربتْ في خُضرة ِ الروض صُفرة ٌ من الشمس فاخضرَّ اخضراراً مشعشعا وأذكى نسيمَ الروضِ ريعانُ ظلِّه وغنَّى مغنِّي الطير فيه فسجَّعا وغرَّد رِبْعيُّ الذباب خلاله كما حَثحثَ النشوانُ صَنْجاً مُشرَّعا فكانتْ أرانينُ الذبابِ هناكُمُ على شَدواتِ الطير ضرباً موقَّعا وفاضتْ أحاديثُ الفكاهاتِ بيننا كأحسنِ ما فاضَ الحديثُ وأمتعا كأن جُفوني لم تبتْ ذاتَ ليلة ٍ كراها قذاها لا تلائم مضجعا كأنِّيَ ما نبَّهتُ صحبي لشأنهم إذا ما ابنُ آوى آخرَ الليل وَعْوعا)1 وابن الرومي من أروع الشعراء في التصوير والتجسيد. (شمس الأصيل) وللشاعر الشعبي بيرم التونسي أبيات جميلة في هذا الموضوع شدت بها ام كلثوم: شمس الأصيل ذهّبت خوص النخيل يا نيل تحفة ومتصوّرة في صفحتك يا جميل والناي على الشط غنى والقدود بتميل على هبوب الهوا لما يمر عليل *** يا نيل أنا واللي احبه نشبهك بصفاك لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك وصفونا في المحبة هُوَّ هُوَّ صفاك ما لناش لا احنا ولا انت في الحلاوة مثيل ** انا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا مطرح ما يرسى الهوى ترسى مراسينا والليل إذا طال.. وزاد تقصر ليالينا واللي ضناه الهوى باكي وليله طويل 1-وعوع: صوت ابن آوى