«وأنت العصر المستبعد من الحنين والحب..الموت وشكله المكتمل على طاولة الحياة الخاسرة.. العصر الذي ينخر في كل شيء.. في الناس.. في الأرض.. في الفرح والحب.. الوجه السيئ للأمل الفاسد.. والفرصة المستحيلة للنجاة حتى من الخيبات الصغيرة». كيف من الممكن أن تهجو عصراً كهذا.. أن تبصق في وجهه.. أن تقول له كفانا إسمنتاً وصخورا.. أن تهمس له في آخر الليل:"لم تعد حكايات الحُب والقصائد تراهن عليك".. كيف من الممكن أن تجعل من هذا العصر الذي كان مشبّعاً بالإنسانية والجمال والأغاني وجهاً جميلاً كما كان.. وجهاً بلا رتوش ومكاييج ومساحيق تجارية ولوحات إعلانية فيها كل شيء.. كل شيء فيها ما عدا الإنسان نفسه لأنه لم يعد يهتم، لأنه لم يعد يبالي، لأنه لم يعد يروج لنفسه! في الصغر كانت علاقتي مع الزمن شيئاً مختلفاً.. كنت أراه كالأجساد التي تمشي بسكينة.. كالضحكات بين المارة.. كالأوراق الصغيرة التي فيها أرقام ومواعيد وأغان وحكايات مستقبلية مليئة بالأمنيات.. كنت أرى في الشوارع المجانين العقلاء.. المجرمين الأسوياء.. كنتُ أرى حياة.. حياة كبيرة.. كبيرة جداً.. كانت الحياة آنذاك تحضك على الحلم.. الحلم بالحب.. بالأشياء غير الواضحة والتي تترك فيك أثراً عميقاً وواسعاً.. أشياء كنا نحبها وتشعرنا بأننا ولفرط حبنا نود أن نأخذها بيديها ونمشي.. نمشي دون أن نقف.. نمشي ونطير معها.. كنا نوقف عرباتنا ونجلس في أي مكان على الأرض.. على التربة.. على الصخر.. لنعيد بجلوسنا علاقتنا الأزلية بالأرض فتغفر لنا خطايانا وتقصيرنا تجاهها.. كنا نحترم الأماكن المختلفة والتي لم تكن تنام باكراً كما يحدث الآن.. كنا نستلقي على السطوح.. نرى النجوم ونعرف بأن الليل مظلم وبأن خلفه صباحاً فيه أطفال ورغيف وكلمة:"صباح الخير يا وليدي"، كان الوقت حفرة نريد أن نسقط فيها جميعاً.. الآن أصبح جدارا عملاقا ومغرورا ومتكبرا نكرهه جميعاً.. لم نعد نرى لا نجوم ولا كواكب بسبب الإنارة الطويلة والتي تروج للفضيحة ولا تحترم خصوصية الليل.. الأرض شاسعة لكنك في محاولة دائمة لتجد بقعة تنام عليها أنت وأولادك وكأن علاقتك انتهت مع هذا الملكوت الواسع.. الأماكن كثيرة لكنك لم تعد تعرف إلى أين تذهب.. المستشفيات كبيرة لكن الجميع يشكو من الوهن وبحاجة إلى سرير..المطاعم في رأس كل شارع لكن بطوننا لا زالت خاوية.. ماذا يمكن أن نتعلم من هذا الزمن الآن.. ماذا يمكن أن نتعلم غير البكاء.. غير الوحدة.. غير إنفاق المال على أشياء لا تهم والبضاعات المليئة بالتعليمات وكأنّ الإنسان لا يملك حق أن يكتشف الأشياء بنفسه.. غير سماع الأغاني التي تجعلك تتبنى اللامبالاة كقضية أساسية في مشروع حياتك الذي كنتُ تظن بأنه يستحق النضال.. ماذا يمكن أن نتعلم من هذا الزمن غير البؤس ولفظة: "أوووووووف" والاهتمام بسعر الطماطم والبصل وبكل ما هو فارغ.. العلاقات الاجتماعية أصبحت دفتر مواعيد.. الأحاديث الإنسانية قصيرة وأشبه بالصفقات التجارية.. الابتسامات مليئة بالهزائم.. الوجوه صندوق خشبي به مخالب وثعابين قد تخرج عليك في أوقات لا تتوقعها على الإطلاق.. تمر السنون دون أن تعانق أحداً.. دون أن تعانق صديقك.. ولدك، أباك، أمك، زوجتك، إخوتك، دون حتى أن تعانق شجرة.. الناس كثيرة لكنها لا تحب الناس.. الناس وحيدة لكنها ليست بحاجة إلى الناس.. الخوف فينا يحتل مساحة واسعة دون أن نعترف بذلك.. لطالما شعرت بأن هذا الزمن زمن لم يعد يعرف نفسه لفرط ما تظاهر بأنه زمن آخر.. لطالما حاولت أن أرسمه كما كنتُ أراه.. امرأة جميلة.. بيتا طينيا.. مطرا.. قنديلا.. قصيدة.. رجلا مسنا متوجها إلى المسجد في ساعة مبكرة.. طفلة بشعرها الطويل تلعب بالهواء.. ولطالما فشلت في ذلك لأنه لم يعد يريد أن يكون زمناً.. لأنه وبعد كل التغيرات الذي فعله فينا أصبح أضيق من أن نتكلم عنا.. أصبح أضيق من الحنين والفرح.. شاسع تماماً مثل البكاء والخوف.. شاسع مثل الأشياء التي تتكفل بمحو كل شيء جميل بما فيها أنت وأنا والإنسانية التي بيننا.. إننا نعيش الآن لأننا مجرد حمقى.. نعيش من أجل تمضية الوقت.. من أجل أن نعرف بأن الأحلام والحياة المتبقية لنا قليلة جداً كحجم النزاهة والإنسانية التي فينا.. إننا نعيش كما لو أننا نحاول أن نقبض على الهواء.. كما لو أننا نستعد للركض دون أقدام.. كما لو أننا لسنا على قيد الحياة أصلاً.