المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالله عبدالجبار رأي صريح وقلم بارع وشفافية في الوصف في مقدماته ( 5 - 7 )
نشر في البلاد يوم 30 - 12 - 2008

برأي صريح وقلم بارع وشفافية عالية في الوصف ودقة تامة في السرد، وضع الاديب عبدالله عبدالجبار بصماته الادبية في الكثير من الكتب الثقافية من خلال كتابة مقدماتها ويحمل الجزء الخامس من الموسوعة الكاملة التي اعدها للنشر الاستاذان محمد سعيد طيب وعبدالله فراج الشريف وقامت بنشرها مؤسسة دار الفرقان للنشر والتوزيع ممثلة في صاحبها الاستاذ احمد زكي يماني، يحمل الجزء الخامس الذي اتى بعنوان (مقدمات) جميع المقدمات التي كتبها الاديب عبدالله عبدالجبار والتي شملت كتاب الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث للمؤلف مصطفى عبداللطيف السحرتي ثم مقدمة كتاب المستشرقين والاسلام، كتاب كيف كنا، ديوان طيور الابابيل، كتاب حمار حمزة شحاتة، كتاب شعر اليوم، كتاب موانئي بلا أجنحة، كتاب الموانئ التي أبحرت، قصة ثمن التضحية، ثم المجموعة القصصية مع الشيطان، وكتاب وحي البلد الأمين، ثم مقدمة كتاب قراءة نقدية في بيان حمزة شحاته الشعري.
الشعر المعاصر
في كتاب مصطفى السحرتي (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) كتب الاديب عبدالله عبدالجبار مقدمته فقال:
السحرتي شاعر رومانطيقي احب الطبيعة والريف حبّاً مخلصا فاندمج في روحهما وعبر عنهما بشعر عذب صادق في طلاقة جميلة لا تحمل تنافراً لفظيّاً ولا يشينها خلل موسيقى ولا تأسرها قيود صناعية - ويسمونها التعالي النفساني والاخلاص الفني، وشعره هو شخصه وان المعاني السامية التي نعشقها في شخصيته هي هي التي تسمو بشعره فنيا.
وللسحرتي اسلوبه المتحرر وصوفيته الساذجة الحلوة وريفياته الجميلة وعواطفه الانسانية الحارة وطاقته الشعرية النابغة وله فنه الذي يعتز به ويدعونا الى الاعتراف به بين شعراء المدرسة الحديثة الموهوبين، وديوانه في معظمه صلوات علوية سهلة سائغة لها براءة الطفولة وأخيلتها المجنحة واحلامها الاثيرية.
هذا هو رأي ابي شادي في شعر صديقه السحرتي وكان شأنه معه شأن «كولردج» مع صاحبه «وردزورث».
اما الشاعر نفسه فيعتبر ما نظمه «خواطر شعرية» اذ يقول «واغلب ما يضم هذا الديوان، انما هو خطرات من واقعات الحياة واحداثها ونفحات من ابناء الطبيعة وبناتها» ويعترف بانها تتباين في الطاقة الشعرية.. «وما نشرتها إلا لأرى فيها شطراً من حاتي وأنشق منها عبير الأنس والهدوء والسلوان ولم اتخير فيها، بل سجلتها كلها على ما فيها من تباين في الطاقة الشعرية وتنوع في النظرة الوجدانية واللمحة الفكرية» لكنها اثيرة عنده لانها تمثل ذكرى فترة حبيبة الى قلبه قضاها في بلدته ميت غمر.
ومن القصائد التي يعتز بها السحرتي قصيدة «الوحدة» التي يصفها بقوله: ومن تجاربي التي لا انساها الى اليوم تجربة شعورية، تنطوي على الضيق من البيئة التي كنت اعيش فيها وذوبان هذا الضيق بعد ان جلست بين ابناء الطبيعة وبناتها فرأيتها في مرح» الطير في فرح وسعادة، والنبت، في سكون ورضا، والضوء يبتسم على مياه النيل الجارية، والريح تعانق غصون الشجر في حنان، وهنا كتبت تلقائيّاً هذه التجربة واسميتها «الوحدة» وقد جرت كالآتي:
جلست في وحدتي حزيناً
وغمرة اليأس تحتويني
وضاق صدري بما يلاقي
من وطأة البؤس والشجون
وكدت في نزعة الرواقي
أرى بقائي من الجنون
فراع فكري من المرائي
بدائع الكون والفنون
تموج في فرحة ولهو
وفي صفاء وفي حنين
فكل طير تراه حرا
يجول في عالم حنون
ويرى أبو شادي أن هناك وجه شبه بين السحرتي الذي نلمس في شعره تهالكه التصوفي على الطبيعة في سذاجة لطيفة غالباً، وبين «وردزورث» الذي كان ينظر الى الطبيعة نظرة تصوفية مقرونة بعاطفته الانسانية.. فالسحرتي في ابياته «الوحدة» و»وردزورث» في ابياته عن الربيع يصدران عن روح واحدة هي التعلق بروح الطبيعة بأشكالها الظاهرة مع العطف الضمني على الانسانية البائسة، وذكر بضعة أبيات من قصيدة «الربيع» تتضمن هذا المعنى ولم يترجمها الى العربية.
والسحرتي يرى الشعر في مظاهر الطبيعة: في المطر والبحر، في النجم والبدر، في الريح وضوء القمر:
وللامطار اشعار
كشعر الأنجم الزهر
كشعر البحر دفاقاً
وشعر الموح والبدر
وشعر الريح خافقة
وشعر الضوء في الفجر
ولا يكتفي بالوصف الظاهري للطبيعة، بل انه بخياله المحلق وحدسه الشفاف يرى من الجمال ما لا يراه غيره، واكثر من هذا ان يرى الجمال فيما قد تشمئز منه بعض النفوس كمنظر الطينة السمراء إذ انه يحس ان هذا اللون الاسمر لتلك الطينة لون خارجي ظاهري، أما اللون الحقيقي فهو مجموعة من ألوان شربتها الارض من الاضواء.. وكأنه هنا أحد المصورين التأثريين فلتستمع اليه وهو يقول:
وما ذلك الطين النفاية إنه
عصارات أجساد مزاج ضياء
تحسَّى طيوف الشمس حتى كأنما
تحرق من وجد وبات بداء
وما ذلك اللون اسمرار وإنما
تمازج طيف لا يبين لرائي
المستشرقون والإسلام
وفي كتاب «المستشرقون والإسلام» لمؤلفه الكاتب الكاتب حسن الهراوي، كتب الاديب عبدالله عبدالجبار مقدمة الكتاب وفيها قال:
مؤلف هذا الكتاب طبيب مثقف، يروقك منه اطلاعه الواسع وتواضعه الجم وتعجبك فيه روحه العربية وعاطفته الاسلامية، وما يضطرم في نفسه من غيرة متقدة على حرمات الاسلام، وحماس شديد للدفاع عنه.. ولا يزال الناس يذكرون تلك الصفحات التي كتبها في الرد على (فنسنك) المستشرق الهولندي الذي كان اسمه (ضمن) أعضاء المجمع اللغوي بمصر، حينما صدر المرسوم الملكي بتأليفه.. وكان من اثر الصيحة التي ارسلها الدكتور(الهراوي) خروج (فنسنك) من المجمع وحلول غيره محله وبهذا افتضح جانب عظيم من اعمال المستشرقين وحقيقتهم..
واذا اضفت الى ذلك ان هذا البحث الذي خرج من اجله فنسنك انتحله لنفسه بعض الناس في كتاب ادعى انه بحث في الشعر، عرفت بعض الاسباب التي حفزت المؤلف الى تأليف هذا الكتاب الذي سنقدم لك منه اطرافا، نرجو ان يكون بها بعض الغناء.
محمد قبل البعث:
اتخذ المستشرقون من وجود بعض النصارى واليهود في الحجاز، ومن سفره عليه السلام الى الشام مرتين موضوعاً للتشكيك والتضليل.. هذا برمنجهام يقول: «والواقع ان محمدًا قبل ان ينزل عليه جبريل بالوحي كان أشد ما يكون نفوراً من الوثنية التي نشأ ونشأ أهله من قريش فيها وأشد ميلاً لهذه المعاني الروحية التي يتحدث عنها النصارى واليهود من اهل الكتاب في أنحاء شبه جزيرة العرب ممن كان يتصل بهم في اثناء ذهابه إلى الشام والى اليمن قبل ان يقوم بتجارة خديجة وبعد ان قام بها..
وهذه المعاني الروحية في اتصالها بنفس منحمد المتوثبة منذ صباها للكمال هي التي دفعته الى تحنثه بغار حراء شهراً او أكثر من شهر.
ومن كلام هذا المستشرق وغيره ك «فردريك شو لهنسن» الذي يرى ان النبي عليه السلام استقى معلوماته من نفس المصدر الذي استقى منه امية بن أبي الصلت تدرك طريقة من طرق تشكيكهم في القرآن العظيم اذ يتوهم القارئ أن سيدنا محمداً تعمق في درس الأديان وتلقى مبادئها على الرهبان في سياحاته، وان ذاك العلم هو الذي دفعه الى التحنث.
والواقع ان النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتق لنفسه طريقا للعبادة، ولو حصل شيء من هذا، لاتهمه اعداؤه به، فقد اتهموه بألوان كثيرة من التهم ولكن احدا منهم لم يجرؤ ان يقول له: «انك تعلمت هذا العلم على فلان» وقد كانت رحلته الاولى مع عمه الى الشام وهو ابن تسع سنين، ولم يكن هناك مجال لتلقي هذه العلوم، فليس ثمت جامعات وليس للرهبان حلقات درس، وكل ما حصل ان تنبأ الراهب بحيري لهذا الغلام بمستقبل ديني.
اما الرحلة الثانية فكانت وهو ابن خمس وعشرين من مكة الى بصرى في ثلاثة اشهر وكان عمله فيها ينحصر في المحافظة على التجارة في اثناء الطريق ومساومة الوسيط، وحمل الثمن الى اصحاب البضائع والمسافة بين مكة وبصرى تقطع على ظهور الابل في اربعين يوما ذهابا ومثلها ايابا، ومدة اقامة التاجر في بيت الوسيط هي عشرة ايام. فالوقت كله يقطع في الطريق وقد كانت رحلة واحدة فأي عقل انساني يمكنه ان يستنبط ان سيدنا محمداً يمكنه ان يتعلم كل ما أتي به في وقت كهذا «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» على انه عليه السلام كان أميّاً قال تعالى: «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم» وقال: «ما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذاً لارتاب المبطلون» صدق الله العظيم.
كيف كنا
وقدم الاديب عبدالله عبدالجبار قلمه في كتاب (كيف كنا) للاستاذ عبدالله الخطيب فقال فيها:
لا يزال نقاد الادب مختلفين في تحديد الأدب الشعبي، أهو أدب الفكرة الوطنية ام هو الادب العامي التقليدي الذي ينبعث من عمل اجيال عديدة من البشرية.. من ضروريات حياتها وعلاقاتها.. من أفراحها وأحزانها.. ذلك الادب القريب في اساسه من الارض التي تشقها الفؤوس.. وصيغته نهائية من صنع الجماهير المغمورة المجهولة أولئك الذين يعيشون لصق الواقع؟
ومؤدى هذا التعريف اسقاط الادب العامي المطبوع في الصحف والكتب والذي تذيعه السينما والمسرح ومحطة الاذاعة لأنه يفقد عنصري التوارث وتجهيل المؤلف، ومهما يكن من شيء فهناك رأي شامل يرى ان الادب الشعبي هو ادب العامية سواء كان شفاهيّاً أو مكتوباً او مطوبعا وسواء أكان مجهول المؤلف ام معروفه، متوارثا عن السلف او انشأه محدثون معروفون.
وهناك رأي اشمل يرى أنه «الادب المعبر عن ذاتية الشعب المستهدف تقدمه الحضاري الراسم لمصالحه يستوي فيه ادب الفصحى وادب العامية».
ولا يتسع المجال هنا لتبيين خصائص الادب الشعبي، وحسبنا ان نشير الى سمات اساسية فيه وهي «العراقة، والواقعية، والجماعية، والتداخل مع فروع المعارف والفنون الشعبية الأخرى كالغناء والتصوف واحوال الاولياء والكهانة والعرافة والرقي والسحر وما الى ذلك».
والأدب الشعبي الحجازي في حاجة الى عناية فائقة من كتاب نابهين ذوي احساس شعبي عميق، يستعينون بشتى الوسائل الحديثة على درسه وتجليته، ورسمه وتصويره وتنميته وتطويره.. فلابد إذاً من جمع القصص والاساطير، والحكم والامثال الشعبية حضرية كانت أو بدوية، ولابد اذا من استقراء الاشعار العامية، وتتبع المساجلات والمنافرات التي تقال في المجتمعات والاحتفالات، ولابد كذلك من دراسة الاغاني دراسة دقيقة، ومعرفة الاصيل منها والدخيل، والذي امتزج بنفسية الشعب الذي لا يزال يطفو على السطح، وتسجيلها على الاشرطة والاسطوانات وترجمتها على المجسمات «اي النونات» وهذه الالوان من الدراسات تفرض علينا كذلك دراسة العامية الحجازية ذاتها، والمنابع التي استقت منها، ومدى بعدها او قربها من الفصحى، والقواعد التي تخضع لها والتيارات التي تأثر بها، ومقارنتها بالعامية النجدية، والعامية في سائر البلاد العربية، وكذلك دراسة اللهجات والعادات، والتقاليد، ونموها وتطورها، سواء أكان ذلك في المدن ام القرى، وسواء أكان ذلك في البيئات الزراعية ام البيئات الصناعية في مهد الذهب ونحوه، فان لغة عامية جديدة قد أطلت برأسها علينا اليوم بعد اكتشاف منابع البترول ومناجم الذهب بالحجاز والظهران، واتصالنا بالانجليز والامريكان، فالعمال اليوم يقولون للغلام الخادم «بوي» ويجمعون هذه الكلمة على «بويات» جمع مؤنث سالماً، وتجد احدهم يقول لزميله: «انت ما تلهمت المدير؟» وكلمة «تلهم» فعل ماض جديد اشتقه العامل البدوي من كلمة Tehll him الانجليزية اي اخبره، واحتسب العامل الفعل وضمير الغائب كلمة واحدة وراح يشتق منها تلهم، يتلهم، تلهم، اي اخبر، يخبر، أخبر... والأمثلة على هذه العامية الجديدة الجديرة بالدرس كثيرة ولا يتسع المجال هنا للاطالة.
ومهما يكن من شيء، فان العناية باللغة العامية والادب العامي من شأنها ان تجلو لنا صورا من الحياة الذهنية والروحية للشعب الحجازي، نستطيع بواسطتها ان نسجل التاريخ الاجتماعي لهذا الشعب العريق الذي كان له اثر كبير في الحضارة الانسانية جمعاء.
وبهذه الدراسة تنمو الشخصية الحجازية التي يجب ان تظل أبداً متطورة وقوية، محتفظة بسماتها الانسانية الاصيلة، وذخائرها الروحية العظيمة.. انها شخصية ابراهيم الحائر الذي وجد ربه - بعد طول شك - فآمن، انها شخصية محمد «صلى الله عليه وسلم» نبي الانسانية ومنقذها الذي ضرب لنا أروع الامثال في التمسك بالمبادئ فقال «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ما تركه أو أهلك دونه».
انها شخصية عمر الحاكم العادل الذي يقول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
واللغة العامية بحكم اتصالها بالواقع والحياة اكثر تطورا وكثيرا ما نجد في ادبنا العامي استجابات لروح العصر يندر ان نجد مثلها في ادبنا الفصحي، سمعت ذات مرة سائقاً حجازيّاً ظريفاً يسمى «المنديلي» يشتم رفيقا له يقول «لعنك الله - الأبعد طبعاً - عدد ما لف الكفر في أرض بن سعود» انها كتابة لطيفة تستند إلى واقعنا، فأرض (ابن سعود) أرض شاسعة واسعة بعيدة الأطراف، والسيارات التي تجوس خلالها يكاد يخطئها الحصر.. وعدد الدورات التي تدورها العجلة بها تحسب بالملايين.
ان هذا المنديلي حجازي متطور يسير مع العصر، وليت ادباءنا المتحجرين الذين لا يزالون يجترون محنطات الماضي يقتدون به!!
وذات مرة استوقف حلاق معروف بمكة يسمى (الصقعة) احد الادباء من الشخصيات المرموقة المكانة لدى الحكومة وقال له: (أنت أديب يا شيخ.. لا.. لا.. أنت لست أديباً ولا شاعراً، وان كنت أديباً حقّاً، فهل تستطيع أن تقول مثل ما قلت؟).
قال له: وماذا قلت؟
فأجابه: قلت:
دع الدخان واشرب كل شيشة
وزد حاءً تطيب لك المعيشة
وما ان سمع الاديب المعروف هذا البيت حتى هرول ضاحكاً وهو يقول: صدقت، والله لا استطيع ان اقول مثل هذا الكلام.
ونحن لا ننظر الى هذا البيت من الناحية الفنية، ولكنا نلاحظ انه بليغ الدلالة على نفسية الشعب، إذ يمثل في ايسر اسلوب حاجة النفوس الى الهروب من الواقع حتى يطيب لها العيش.
بعد هذا التمهيد الطويل، أبدأ في الحديث عن كتاب صديقنا الاستاذ عبدالله الخطيب «كيف كنا؟».
ولعل خير ما يبلور المحتوى في هذا الكتاب انه ذكريات او انطباعات اتصلت بنفس الاديب الحساس، وضربت على اوتار قلبه، فلم يستطع الا ان يجلوها في الصورة اللطيفة، التي امتزجت فيها العامية بالفصحى، والديمقراطية بالاستقراطية، والحياة الماضية بالحياة الحاضرة، وآلام الواقع بآمال المستقبل.
طيور الأبابيل
وعلى ذات النمط الذي اتبعه ابراهيم هاشم فلالي في كتابه الشعري (طيور الأبابيل) قام الاديب عبدالله عبدالجبار بكتابه مقدمة الكتاب باللغة الشعرية فقال فيها:
الفلالي
- كأني زيد الهلالي
حين يدعي للنزال -
لا يبالي
ضلة، ماذا يبالي؟
وجنود الحرف من فيه
تغني للنضال
كلمات كالنصال، كالنبال
كخطى جبريل، او خفق جناحيه
على غار حراء في الليالي
يتهدى صوته الحر
بآيات القتال
ويصب اللعنة الكبرى على
آل صهيون حثالات الحثال
سمات وسجايا: منذ عهد بعيد، وفي بواكير «السبعينات» العربية، ويمنكنني في دار البعثات السعودية بالقاهرة كان اول لقاء بيني وبين الفلالي وان كنت قد عرفته من اثاره قبل ذلك، وبعد تحية حارة قلت له في لهجة جدية:
- ياسيد.. ديوانك «الحالي» لذيذ!
قطب جبينه ثم (فرده) واتسعت حدقتاه.. وكأني الآن انظر اليه واقرأ ما كان يدور في ذهنه آنذاك: «اي استاذ هذا الذي لا يفرق بين غذاء الجسم وغذاء الارواح؟»
وسرعان ما علق:
- «ألحاني» بالنون لا بالتاء يا استاذ!
فضحكت وضحك الفلالي.. وكانت هذه الدعاية مفتاح صداقة سأظل اعتز بها على مدى الايام.
كان الفلالي متوسط القامة معروق الجسم تكسو وجهه النحيل أدمة (سمرة) عربية محببة، وفي انفه الأقنى تقرأ معاني الأنفة والشمم والإباء، وفي شفتيه المزمومتين روح العزم والاصرار، وفي عينيه بريق الذكاء.. اما جبهته التي ازدادت سعة حين انحسر الشعر قليلاً عن مقدمة رأسه في صحراء العمر، فتوسطها «سجدة» هي آية التقوى والصلاح.. وقوفها هامة كثيفة الجنبات استحال لونها الابيض بصبغة سحرية الى لون مزيج من الفضة والرصاص.
وفعلت الشيخوخة في الرجل الصلد الفتي القلب ما فعلت، ولكنه لا يبالي ما دام نبض الابداع في قلبه متوقد الاشعاع:
ان رأيت الشعر شابا
والاهاب الغض غابا
والثنايا البيض مادت
واحتذت ضرسا وناباً
لا يرغك الامر وانظر
بين جنبيك اللبابا
تلق نبضا في فؤاد
منبدعا معنى شبابا
كان فصيح اللسان، جهيز الصوت، جهير البيان، يفكر بصوت عالي، لا يعرف المواربة في الحق او ما ينتقد انه الحق، ويجامل ولكن في غير نفاق.. وفيه لباقة، وقدرة فائقة على حل المشكلات رفض المنازعات.. احتدم الخلاف مرة بين زوجين، وحاولت وحاول غيري اصلاح الحال بينهما دون جدوى، واوشك الامر ان يصل الى القطيعة والطلاق واستنجدت بابي الكلام - وهذه كنيته التي ادعوه بها - فشرع يرتم الجسور المنهارة بطريقته الخاصة، طلب اولا الى اقرباء الزوجة ان يبتعدوا عنها في فترة وساطته.. ثم تحدث مع المتخاصمين، كل على انفراد.
وتحدث الى الزوج - وكان صديقاً - حديثا فياضاً، فمن قرآن الى حديث الى حكم وشعر، الى حجج منطقية وعاطفية ايضا حتى فثأ غليان الزوج.. ورجاه ان يعود الى بيته وحده فوراً وكان الوقت ليلاً.. وسمعت الزوج يقول له» انها عنيدة وأخاف ان تطردني فأرمي عليها اليمين» فقال له: «لا.. لن يحدث هذا ولن تطردك» ثم همس في اذنه بما لا اعرف، وفي اليوم التالي ساد الصفاء وقلت للفلالي: «يا لك من حلال للعقد!» ولكن قل لي: كيف وبماذا همست في اذنه؟ فاسر إليّ بما أدهشني وضحكنا جميعا وقلت له: «يا له من علاج ناجع، وشفيع لا يرد!».
حمار حمزة شحاته
وفي مقدمة كتاب حمار حمزة شحاته للاديب حمزة شحاته قال عبدالجبار:
نحن تجاه قطعة ادبية ان لم تبلغ الطول الذي اصطلح عليه عادة نقاد الغرب فهي كذلك ليست قصيرة الى الحد الذي تدخل به في الكلمات القصار التي تكتبها الصحف السائرة اليوم كفكرة الاستاذ على امين بجريدة الاخبار مثلا.. انها قطعة بين بين..
ثم هي بعد ذلك فكرة جديدة - أو على الاقل - في احساس كاتبها الاديب السعودي فهو حين كتبها قبل اكثر من ربع قرن لم يكن توفيق الحكيم الاديب الجهير قد اصدر كتابه «حمار الحكيم» و»حمار قال لي» ولم يترجم كذلك رائعة «حيمينيز» «انا وحماري» واذا رجحنا انه قرأ كتاب «خواطر حمار للكونتيس» (دوسيجور) فاننا نلاحظ انه لم يسرق من ذلك الكتاب ولم يتأثر بتلك الخواطر او المنذكرات التي يرجح ان توفيق الحكيم قد تاثر بها واقتبس منها.
ولما شرع حمزة شحاته في كتابة سلسلة مقالاته الأدبية تحت عنوان «خنفشعيات» بجريدة صوت الحجاز حرص ان ينوه في تمهيده لها بما يتوخاه من الجدة والابتكار.
موانئ بلا أرصفة
أما كتاب موانئ بلا أرصفة للكاتبة السعودية انتصار العقيل، فقال الأديب عبدالله عبدالجبار في مقدمته:
ما نقرؤه في هذا الكتاب اقاصيص ولوحات وخواطر اشتات..
ويرى الكاتب الجهير «محمود السعدني» ان كتابه السابق «فيروس الحب» اشبه بمونولوج.. فالكاتبة تناجي نفسها وتحاور روحها..
والتهويمات الذاتية والعواطف المتقدة تجري في النفس لتصب في النفس.. وهذا صحيح على حد كبير.. بل هو طبيعي - غالباً - فيث بواكير الحياة الادبية لأي اديب او اديبة.
ولكن انتصاراً ما لبثت ان خرجت رويدا رويدا من قوقعة الذات فسمعت احاديث الناس واسرار البيوت ما سمعت وتلقفت الواقع الحي لمجتمعات وبيئات مختلفة من الصحف والجلات وسائر وسائل الاعلام، وحيث اصبح لها قراء يتشوقون لزاويتها الخاصة باحدى المجلات المصرية الناجحة وكان بينها ةبينهم من التجاوب الفكري والنفسي والعاطفي ما جعل تجربتها تزداد ثراء يوما بعد يوم! والقارئ الواعي معلم كبير لكاتبه الاثير، وإن كان يتعلم منه!
ان يغرس الكاتب اسنانه في لحم المجتمع الحي، معناه ان يتذوق طعم الحياة حلوها ومرها كما هي في الواقع.. لا في سبحات الخيال.. بل ان في احداث الواقع ما قد يفوق الخيال.
عربيد ساقط، هوايته وحرفته الصيد الحرام والمتعة، وتمضي الشهور والسنون وهو غارق في شهواته ونزواته ينتهك الاعراض مع رفاق السوء غير عابئ بوازع من خلق او دين او ضمير.. وذات يوم وهو يمني نفسه بمتعة جديدة وصيد جديد.. اذ هو وجها لوجه امام... او...
يا للفضيحة! يا للهول، لقد كان قد وشك ان ينتهك عرض نفسه! اذن لقد انهارت اسرته.. ما السبب في انهيارها؟ وما مصيره؟
جلطة في القلب او في الدماغ تقضي عليه وشيكاً.. وربما ينتحر.. واهون عقاب ان يصبح مجنوناً لانه حينئذ لا يعي! اما اقسى عقاب طبيعي فهو ان يبقى في حالة تمزق مستمر يتجدد فيه الجنون كلما تجدد فيه الوعي، ويتجدد فيه الوعي كلما زايله الجنون! انه الكاسر الاسطوري الذي ينهشه حياً، فاذا فنى لحمه وظن انه سيسترح بالموت عاد اليه لحمه ليعود النهش من جديد..
حقاً! ان الحياة اكبر كاتب للقصة!
اذا كانت «انتصار» تصور بعض من خواطرها النفسية باسلوب المتكلم، فانها اصبحت تصور بعضا من تجارب الآخرين بالاسلوب ذاته، فلديها القدرة على التقمص حتى لكأن جحيم الآخر جحيمها وجنته وجنتها.. وقد تتحدث عن ذاتها او غير ذاتها باسلوب الغائب!
وموهبة القصة لديها واضحة، تكثف الحدث وتصل الى غايتها بطريقة مدهشة في بعض الاحيان كأن تفاجئك بما لم تكن تتوقعه كما في «ابنة الطبيبة» فتسعد بصنعتها وذكائها، ولا اريد ان الخص الاقصوصة واكشف سرهان وانما اريد ان تقرأها وتستمتع بها وبمثيلاتها كما استمتعت.
وقلما نجد اقصوصة تركز فيها الاحداث فتشعر بانها تكثيف او تلخيص لقصة طويلة.. وبعض الكتاب يفعل ذلك خطأ، اذ المعروف ان الاقصوصة تعالج موقفاً، وكل جملة محسوبة بدقة في هذه الشريحة الصغيرة بتحقق الهدف الذي يرمي إليه الكاتب، فلا مكان لاحداث أو افكار تموج بها الحياة الطويلة.
وربما اعتراض علي بأن «نجيب محفوظ» الكاتب العالمي الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام (1988م) نشر أول اقصوصة بعد نيله الجائزة في العصور تحت عنوان «عندما يقول البلبل لا» وهي تصلح ان تكون قصة طويلة.. أفلا يكون «نجيب محفوظ» قدوة للآخرين في هذا الموضوع بالذات؟.. والجواب ان هناك فرقاً بين تلخيص احداث طويلة في اقصوصة، وبين ان تكون الاقصوصة صالحة لان تكون قصة طويلة.. فنجيب محفوظ لم يكثف أحداثا كبيرة كل حدث في سطر او سطرين او سطور.. وانما ذكر الهياكل الرئيسية ومحطات صغيرة تخدم الغرض وتبرز الموقف وهو رفض البطلة الزواج من الرجل الذي تقدم لزواجها!..
لقد آن الاوان ان تكتب «انتصار» مجموعة قصصية قائمة بذاتها وتنشرها على حده، لا قصصا تائهة بين (افانين) من اللوحات والصور الادبية.
ولعل الحيز الذي تكتب فيه (صفحة واحدة من نمجلة اليقظة الغراء) هو الذي يحجزها عن الانطلاق، وفي وسعها ان تكتب الاقصوصة في صفحتين او ثلاث او بضع صفحات وتنشرها مرة في الشهر على الاقل بعنوان «قصة الاسبوع او الشهر» وحينئذ ستهتم بالتنوع اسلوباً وموضوعاً وفناً.
«انتصار الوزير».. عجباً لماذا كتبت الوزير بدل «العقيل»؟.ز الجو الذي اعيش فيه هو جو القضية الفلسطينية.. وخطاب أبي عمار التاريخي في جنيف في ديسمبر عام (1988م) الذي اخزى اسرائيل، واضطرت على اثره الولايات المتحدة الأمريكية ان تفتح باب الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية مازال يرن صداه في قلبي.
لقد كانت «انتصار الوزير» قرينة رمز النضال والاستشهاد «ابو جهاد» عضوا في الوفد المرافق لياسر عرفات الى جنيف.. وهي من قبل عضو بالمجلس الوطني المركزي الفلسطيني، كلمة «انتصار» واحدة واللقبان على وزن واحد.
كنت اريد اكتب:
«انتصار العقيل» وانت تنافحين عن بنات جنسك، لماذا لا تكبين عن «انتصار الوزير» وحياة المناضلات العربيات سواء استشهدن ام بقين يؤدين الرسالة الوطنية والكفاح، أمثال جميلة بو حريد، سناء المحيدلي، سهى.. طبعاً على رأسهن سميتك يا انتصار.. فهي مثل حي لما ينبغي ان تكون عليه المرأة العربية والفلسطينية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.