قرر طه حسين بأن الغرب ذو مشروع إنساني، ولا سبيل لتمدّن الشرق إن لم يتّبع مسار التقدم الغربي، فهو المثال الباهر للتقدم الذي ينبغي اتباعه، وإلى ذلك فالغرب ملهم في اقتراح الطرائق التي يجب الأخذ بها في دراسة الظواهر الفكرية والأدبية، وإلا وقع المحذور، فما يقترحه الغربيون في بحوثهم هو ما ينبغي أن يُبحث، وذلك هو مبدأ "المقايسة" الذي أخذ به طه حسين في معظم نتاجه الفكري والأدبي؛ ففي قضية الشك في الشعر الجاهلي "قايَسَ" طه حسين بين مرحلة البداوة اليونانية، ومرحلة البداوة العربية، فبما أنّ بداوة اليونان الشعرية تجلّت في شعر "هوميروس" وخلفائه، وعليها قامت فلسفة "سقراط" و"أرسطاطاليس" وأدب "اسكولوس" و"سوفكليس"، فإنّ البداوة العربية تجلّت في الشعر الذي سيطر عليه "امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الذين نبخسهم أقدارهم، ولا نعرف لهم حقهّم". وهم الذين كانوا بشعرهم وراء ما ظهر لاحقا في الحضارة العربية "من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال". وذلك ما نصّ عليه في كتاب "قادة الفكر". الشعراء الأوائل عند اليونان والعرب هم الذين وضعوا أولى إمكانات الفكر، وعلى جهودهم قامت فيما بعد إنجازات الأدباء والفلاسفة والمفكرين، ولكنّه في كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي صدر بُعيد كتاب "قادة الفكر" وتضمن حكم مماثلة بين شعراء الجاهلية وشعراء الإغريق، باعتبارهم ممثلين لحقبة البداوة عند الأَمتين العربية والإغريقية، لا يقوم طه حسين بإنكار قصور شعرهم عن تمثيل المرحلة الجاهلية فحسب، وإنما ينكر ذلك الشعر، وينكر وجود بعض الشعراء، وعلى رأسهم: امرؤ القيس الذي وضعه في "قادة الفكر" على رأس قائمة الشعراء "الذين نبخسهم أقدارهم، ولا نعرف لهم حقهم". يقول "إنّ الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهلياً ليس من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أنّ ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي". ويضيف مقررا النتيجة الآتية التي تعارض ما سبق أن أكده لكنه يحتذي حذو أصحاب الدراسات الشفوية عن الآداب اليونانية "إنّ ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء في شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلّف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين". وينتهي إلى القول بيقين أنّ البحث الفني واللغوي يفضي بنا "إلى أنّ الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين، لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنيّة أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن". افتراض التناظر بين المرحلتين البدويتين عند اليونان والعرب أدّى بطه حسين إلى سلسلة من النتائج المتضاربة، وهي وجود شعراء يونان وعرب يمثلون هاتين المرحلتين، وشعرهم هو بذور التطورات الأدبية والفكرية اللاحقة عند كل من الأمتين، وبما أنّ تاريخ الفلسفة الغربية استدرج أنّ بعض التأملات الفلسفية اليونانية وجدت في ملاحم هوميروس- وفيما بعد في أشعار هزيود- فإنّ مقياس التناظر لا بد أن يطّرد، فيكون شعر امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير ممثلا لروح المرحلة البدوية في العصر الجاهلي عند العرب، وعليه انبنى الأدب والفكر فيما بعد في القرون اللاحقة. وهذا يبرهن على وجود ذلك الشعر القديم. ولكن هذهِ النتائج اصطدمت بسياق قراءة ثانية، انطلقت هذهِ المرة من منظور الشك الذي استعاره من باحثي الآداب اليونانية والرومانية، فضلاً عن جماعة من المستشرقين الذين سبقوه إلى إثارة موضوع انتحال الشعر الجاهلي. فبما أنّ الأدب مرآة لعصرهِ، حسب المناهج التاريخية والاجتماعية التي أخذ بها طه حسين، وأنّ قراءته للشعر الجاهلي لم تثبت حضورا لروح العصر في ذلك الشعر، فإنه بدل التشكيك بالقراءة ومنطلقاتها; ذهب إلى الشك في وجود الشعر والشعراء. إذن الشكّ في الشعر الجاهلي مشروع لأن ذلك الشكّ طال من قَبلُ أدب اليونان والرومان، فليس "الأمة العربية أول أمة انتحل فيها الشعر انتحالا وحمل على قدمائها كذباً وزورًا، وإنما انتحل الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل، وحمل على القدماء من شعرائها، وانخدع به الناس وآمنوا به، ونشأت عن هذا الانخداع والإيمان سنّة أدبية توارثها الناس مطمئنين إليها، حتى كان العصر الحديث، وحتى استطاع النقاد من أصحاب التاريخ والأدب والفلسفة أن يردوا الأشياء إلى أصولها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا". قضية الشك في الشعر الجاهلي متصلة أشد الاتصال بمبدأ "المقايسة"، فقد نقض طه حسين صحة الشعر الجاهلي استنادا لتبنيه رؤية منهجيّة تقول بأنّ روح العصر وطبيعته تنعكسان في الأدب الذي يظهر فيه، ولمّا وجد غيابا لروح العصر الجاهلي في الشعر المنسوب إليه، حكم بأنه موضوع ومنحول، وكان أولى به تعديل الرؤية المنهجية بدل الشك بالموضوع، ويلاحظ بأن آليّة "المقايسة" تشتغل عنده بنظام شبه ثابت؛ فما أن تُطرح قضيّة ما في الأدب والفكر، إلاَّ ويصار البحث لها عن نظير في الفكر الغربي، سواء أكان حديثا أم قديما. وتجري مضاهاة بين الموضوعين، ويصار إلى تثبيت القضيّة أو نفيها في ضوء إثبات أو نفي القضية الأخرى. فكل شيء يقرر صوابه بمقدار مناظرته لما هو يوناني أو روماني أو أوروبي في قضايا البحث الأدبي والفكري والتاريخي.