تتصف العلاقات الأميركية - العراقية بمسار طويل من الروابط والتحوّلات، السياسية والأمنية الكبرى، تمتد أحداثها لأكثر من ثلاثة قرون. لقد رسمت الحرب العراقية - الإيرانية مساراً استثنائياً للسياسة الأميركية الخاصة بالعراق. بيد أن هذا المسار لم يُقدر له التواصل اعتباراً من اللحظة التي وضعت فيها الحرب أوزارها. وبصورة أدق ، منذ أن بدت بوادر عدم الحسم في المعركة، مع تنامي مطرد للآلة العسكرية العراقية فالولاياتالمتحدة لا تعتبر حديثة عهد على العراق، ولم يكن اهتمامها به، في أي مرحلة تاريخية، اهتماماً عابراً، بل جزءاً من خيارات جيوسياسية، كونية الطابع والامتداد. وهنا، تحديداً تتبدى خصوصية العراق في المقاربة الأميركية. لقد تقلب مضمون العلاقات الأميركية - العراقية تقلباً واسعاً خلال ثلاثة قرون مضت. وكان هناك تناوب في هذه العلاقات بين المحتوى التعاوني ونقيضه الصراعي. إلا أن مكانة العراق في المدرك الاستراتيجي الأميركي، ظلت محافظة، في الأوقات كافة، على موقعها المتقدم والجوهري. واليوم، يُمثل العراق شريكا إقليميا رئيسيا للولايات المتحدة، تتجاوز العلاقة به بُعدها الثنائي، لترتبط بجوهر المقاربة الأميركية للخليج والشرق الأوسط. وفي ذلك تحوّل تاريخي بالمعايير كافة. وثمة إدراك أميركي عام بأنه ليس من المعقول التخلي عن العراق، بعد تضحيات بلغت أكثر من 4400 قتيل و32 ألف جريح في صفوف القوات الأميركية، خلال فترة الحرب الممتدة بين 19 آذار/ مارس 2003 إلى 18 كانون الأول/ ديسمبر 2011. أو ما مجموعه ثماني سنوات وتسعة أشهر. تاريخياً، بدأ التفاعل التجاري الأميركي مع الدولة العثمانية (التي شملت المنطقة التي أصبحت فيما بعد العراق الحديث) في أواخر العام 1700. وفي العام 1831، أصبح القائم بالأعمال ديفيد بورتر، الدبلوماسي الأميركي الأول في الدولة العثمانية، في العاصمة القسطنطينية. ومع تفكك الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، دعمت الولاياتالمتحدة إدارة العراق، لكنها أصرت على إعداده للاستقلال. واعترفت الولاياتالمتحدة بالعراق في 9 كانون الثاني/ يناير من العام 1930، عندما وقع سفيرها لدى المملكة المتحدة، تشارلز داويس، على الاتفاقية الأميركية- البريطانية- العراقية في لندن. ووفقاً لديباجة الاتفاقية، فإن "الولاياتالمتحدة الأميركية تعترف بالعراق كدولة مستقلة". كما اعترفت الولاياتالمتحدة في هذه المعاهدة "بالعلاقات الخاصة" القائمة بين المملكة المتحدة والعراق، إذ كان هذا الأخير تحت الحماية البريطانية، استناداً إلى معاهدة فرساي. وفي 10 آب/ أغسطس من العام 1888، تولى جون هنري هاينز منصبه كأول قنصل أميركي في بغداد، التي كانت في ذلك الحين جزءاً من الدولة العثمانية. وكان القنصل الأميركي يؤدي مهامه من القسطنطينية، حتى قدم أوراق اعتماده إلى السلطات العثمانية في بغداد في 8 كانون الثانيك/ يناير 1889. وأقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الولاياتالمتحدة والعراق في 30 آذارك/ مارس 1931. ورفعت الولاياتالمتحدة تمثيلها الدبلوماسي فيه إلى سفارة في 28 كانون الأولك. ديسمبر 1946. واستمرت العلاقات الرسمية بين البلدين حتى حزيران/ يونيو من العام 1967، عندما قام العراق بقطعها، على إثر الحرب العربية- الإسرائيلية الثالثة. وبعد ذلك، استؤنفت العلاقات في 26 تشرين الثاني 1984، واستمرت حتى بداية حرب الخليج الثانية في العام 1991. وفي العام 2004، تمت إعادة فتح السفارة الأميركية في بغداد، وأصبح جون نغربونتي أول سفير أميركي بعد حرب عام 2003. وفي الرابع من كانون الثاني/ يناير 2009، رفع علم الولاياتالمتحدة الأميركية فوق مبنى سفارتها الجديد في بغداد، في احتفال رسمي حضره رئيس الجمهورية العراقية جلال الطالباني. ووفقاً لأدام أرلي، المستشار الإعلامي في السفارة الأميركية في بغداد، فإن هذه السفارة تعد أكبر سفارة للولايات المتحدة في العالم، وقد بنيت على مساحة 100 هكتار في شارع الكندي من جانب الكرخ، وسط بغداد، فيما يُعرف بالمنطقة الخضراء. وتحتوي السفارة الجديدة على 27 مبنى بارتفاع 4-5 طبقات، تتخللها مساحات خضراء، وملاعب ومسبح وقاعة للرياضة، ومناطق ترفيهية أخرى. ويعمل فيها نحو 1200 موظف، معظمهم من الأميركيين. وفي مسارها التاريخي القريب، تأثرت العلاقات الأميركية - العراقية بثلاث حروب كبرى، هي الحرب العراقية - الإيرانية، وحرب الخليج الثانية، والغزو الأميركي للعراق. بالنسبة للحرب العراقية - الإيرانية، ثمة سؤال لا زال يفرض نفسه حتى اليوم، يقول: ما هو موقف الولاياتالمتحدة من هذه الحرب؟. نظرياً، تدخل الحرب في مفهوم توازن القوى ذاته، وهو مفهوم كان حينها مرعياً أميركياً، أو لنقل كانت السياسة الأميركية في الخليج تقر به، وتبني فوقه كامل إستراتيجيتها. كذلك، فإن الحرب العراقية - الإيرانية كانت في الوقت نفسه شكلاً متقدماً من الاستنزاف المتبادل. وبهذا المعنى فهي فرصة لاحتواء أطراف القتال. والاحتواء بالمدلول الفلسفي يُمثل غاية توازن القوى ذاته. وفي الحسابات الأميركية، فإنّ القوة العراقية كان بمقدورها تعطيل القوة الإيرانية وحسب. ولم يكن من الوارد بحال من الأحوال سيطرة العراق على الدولة الإيرانية، واستنفاد قدراتها الجيوسياسية، ومن ثم توجيهها في صراع النفوذ الإقليمي أو الدولي. وهذا خلاف ما كان يمكن أن يحدث لو أنّ السوفيات تمكنوا من غزو إيران وإحكام القبضة عليها، على النحو الذي خشي منه الأميركيون فور سقوط الشاه عام 1979. إنّ الذي حدث في الحرب العراقية - الإيرانية تحديداً هو تعطيل القوة الإيرانية، ومحاصرتها في رقعتها الجغرافية، والحد من انسياب مشروعها الأيديولوجي إلى الدول المجاورة. وفوق ذلك كله استنزاف القدرات المادية والبشرية لإيران. بيد أن الحرب لم تسفر عن تعطيل دور طهران ومشروعها الأيديولوجي وحسب، بل عطلت كذلك دور بغداد ومشروعها الإقليمي. وبهذا المعنى لم تدخل الحرب في نطاق توازن القوى فقط، بل كانت، وهذا هو الأهم، شكلاً من أشكال الاحتواء، حقق أهداف الولاياتالمتحدة دون أن تكون طرفاً مباشراً فيه. لقد رسمت الحرب العراقية - الإيرانية مساراً استثنائياً للسياسة الأميركية الخاصة بالعراق. بيد أن هذا المسار لم يُقدر له التواصل اعتباراً من اللحظة التي وضعت فيها الحرب أوزارها. وبصورة أدق ، منذ أن بدت بوادر عدم الحسم في المعركة، مع تنامي مطرد للآلة العسكرية العراقية. وفي الأخير، انتهت الحرب العراقية - الإيرانية ببروز العراق قوة متقدمة في قدراتها العسكرية، أمكن تصنيفها على أنها قوة كبرى إقليمية. كذلك، فإن القوة العسكرية الإيرانية تضخمت هي الأخرى بفعل سنوات الحرب. وهنا وجدت الولاياتالمتحدة نفسها أمام تحدٍ من نوع جديد، تمثل في أنّ طرفي التوازن الإقليمي هما خصمان سافران للولايات المتحدة، أو على الأقل غير منسجمين تماماً مع خياراتها في المنطقة. وهذا خلاف تجربة التوازن الذي رعاها مبدأ نيكسون. وإذا أردنا توصيفا أكثر دقة للتطورات، فيمكننا القول إن توجساً أميركياً من تضخم القوة العسكرية العراقية بدأ يلوح في الأفق في الفترة الأخيرة للحرب العراقية - الإيرانية. وهنا، تبنت إدارة جورج بوش الأب فكرة منع قيام "قوة إقليمية كبرى". وكان العراق تحديداً هو المقصود من هذه المقولة، أو هذا المصطلح الذي تمت إعادة إنتاجه. وكانت معطيات البيئة الدولية الآخذة حينها في الانقلاب تسمح لواشنطن بالمضي قدماً خلف هذا الشعار. وكانت تلك بداية الصدام الأميركي - العراقي. بيد أنّ بغداد لم تُجِد قراءة متغير السياسة الأميركية في المنطقة، المستند إلى متغير دولي كبير. وهنا سارت بغداد على طريق تغذية طموحاتها الإقليمية، ومرة أخرى عاد الجيش العراقي ليعبر الحدود، وكانت الكويت محطته الجديدة. لقد قبلت الولاياتالمتحدة التحدي، أو ربما هي وجدت في الخطوة العراقية فرصة سانحة للقضاء على قوة العراق العسكرية وعزله استراتيجياً. وهنا كانت "عاصفة الصحراء" عام 1991، التجسيد الأكثر تجلياً لمبدأ كارتر، وذلك بعد 11 عاماً على إعلانه. بعد 12 عاماً على عاصفة الصحراء، جاء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، ليمثل أحد النتاجات الكبرى لعاصفة الصحراء ذاتها، فقد غزت الولاياتالمتحدة عراقاً مجرداً من سلاحه، وفاقداً لمقومات الردع. وإذا كان الحدث قد رمى بتداعياته عميقة الأثر، على حاضر ومستقبل العراق، وأعاد تشكيل بيئته السياسية، فإنه رمى في الوقت ذاته بمفاعيله واسعة النطاق على الجوار العراقي، والبيئة الإقليمية عامة. بالنسبة للولايات المتحدة ذاتها، مثل وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض مطلع العام 2009، بداية مراجعة واسعة لمستقبل الوجود الأميركي في العراق، وفرص إعادة بناء العلاقات الأميركية - العراقية على أسس جديدة. وهكذا، كان قرار سحب القوات. وفي الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2011، عبر آخر موكب للقوات الأميركية الحدود باتجاه الكويت، لينتهي الوجود الأميركي من بلاد الرافدين، بعد نحو تسعة أعوام على الغزو. وفي التوصيف المبدئي، يُمكن القول إن العراق قد مثل على صعيد التجربة الأميركية، حالة بين حالتين، أو نموذجين، هما جمهورية الدومنيكان واليابان. في الأولى، خرج الأميركيون دونما تحقيق نتائج تذكر على الصعيد الاستراتيجي العام بعد احتلال امتد خلال الفترة بين 1916-1924. وفي الثانية، نسجوا تحالفاً متيناً، أسس لمرحلة جديدة في البيئة الجيوسياسية لشرق آسيا. لم ترق العلاقات الأميركية - العراقية إلى نموذج الروابط القائمة بين واشنطن وطوكيو، لكنها لم تفقد، في الوقت نفسه، مضمونها الاستراتيجي، والآليات الكفيلة بإدامة هذا المضمون. ولقد تحقق ذلك في توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين، في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، والتي أضحت نافذة المفعول اعتباراً من الأول من كانون الثاني/ يناير 2009. هذه باختصار قصة العلاقات الأميركية -العراقية. إنها تجربة بحاجة إلى الكثير من التأمل..