بالأمس، كانت الحرب الباردة حرباً بالمعنى الأيديولوجي، أي بما هي صراع بين المدرستين الرأسمالية والشيوعية. بيد أن تلك الحرب كان لها، في الوقت ذاته، مدلولها الجيوسياسي عميق الأثر. لم يكن المعيار الفعلي الذي انقسم العالم حوله، إبان الحرب الباردة، معياراً أيديولوجياً صرفاً، فبعض الدول حاربت الشيوعية في ساحتها المحلية، إلا أنها وجدت مصلحتها في التحالف مع الاتحاد السوفياتي، لتوازن به تحالف منافسيها مع الولاياتالمتحدة. وهذه ظاهرة أمكن تلمسها في عدد من دول الشرق الأوسط. في المقابل، أدت حسابات التوازن الدولي لأن تجد الولاياتالمتحدة نفسها في تحالف مع أنظمة سياسية بعيدة عن مقولاتها الأيديولوجية، كما حدث مع نظام ماركوس في الفلبين، ونظام فرانكو في إسبانيا، ونظام بينوشيه في تشيلي. والأكثر من ذلك، فإن تباين الحسابات الجيوسياسية قسم العالم الشيوعي ذاته إلى فريقين متنافسين: الأول، مثله الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية السائرة في فلكه، والثاني مثلته الصين وحلفاؤها الآسيويون. وفي جوهره الفعلي، لم يكن الخلاف بين الماوية والستالينية سوى خلاف على النفوذ والزعامة الدولية. بعد الحرب الباردة، بدت الولاياتالمتحدة في طليعة المعنيين بالمشهد السياسي الجديد. وشهد عقد التسعينيات كماً وافراً من الدراسات، التي تحدثت عن الخيارات والفرص المختلفة. وعن النظام الدولي الجديد، الذي لم يكن قد تبلور بعد. والذي لا زال في حالة سيولة شديدة حتى يومنا هذا. بعد الحرب الباردة، بدت الولاياتالمتحدة في طليعة المعنيين بالمشهد السياسي الجديد. وشهد عقد التسعينيات كماً وافراً من الدراسات، التي تحدثت عن الخيارات والفرص المختلفة. وعن النظام الدولي الجديد، الذي لم يكن قد تبلور بعد. والذي لا زال في حالة سيولة شديدة حتى يومنا هذا. وقبل عقد من الآن، أي في مطلع الألفية الثالثة، أعدت مجموعة من مراكز التحليل في الولاياتالمتحدة دراسة ارشادية لوزارة الخارجية الأميركية، أكدت على أن أمن الولاياتالمتحدة يمتد ليشمل أمن القارة الأوروبية، من سواحل بحر قزوين وحتى شواطئ المحيط الأطلسي. وبالمثل، فإن استقرار مجموعة دول الباسفيك يأتي في المرتبة الثانية بعد أوروبا، ويليهما الشرق الأوسط. ورأت الدراسة أن المبدأ الاستراتيجي، الذي ينبغي أن تحافظ عليه الولاياتالمتحدة، خلال المائة عام القادمة، هو عدم السماح بانفجار أي نوع من النزاعات الإقليمية، التي يُمكن أن تهدد السلام والاستقرار في هذه المناطق. وأن أي صراع، غير مأمون العواقب، سوف يحمل تأثيرات مباشرة على المصالح القومية الأميركية. وتؤكد الدراسة على ضرورة أن تكون القوة الأميركية عامل ردع لاحتواء هذه النزاعات. وقالت الدراسة، إن على الولاياتالمتحدة أن تعزز قيادتها للعالم باستخدام جميع الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية. وأن تحافظ على التفوق العسكري والتكنولوجي بتميز واضح عن سائر القوى الأخرى، حتى تضمن الحفاظ على مصالحها الكونية، وعدم السماح لأي من الأطراف بتهديد السلم، سواء على الصعيد الدولي، أو على المستويات الإقليمية المختلفة. ورأت الدراسة أن الولاياتالمتحدة يجب أن تقود العالم حتى يصبح مواطنوها آمنين على أراضيهم، و"لايمكن لنا أن نصبح أقوياء في الخارج إلا إذا كنا أقوياء في الداخل". ولذلك يجب وضع كثير من الأسس - تضيف الدراسة - التي تحكم قواعد وآليات تطوير القدرة الاقتصادية والعسكرية الأميركية. اليوم، وبعد أكثر من عقدين على انتهاء الحرب الباردة، ثمة تغيّرات واسعة طرأت على السياسة الخارجية الأميركية، وخياراتها الكونية بعيدة المدى. لقد جرت إعادة بناء العلاقات الأميركية بأوروبا، التي لم تعد منشطرة سياسياً أو أيديولوجياً. وتمت إعادة تأكيد الارتباط العسكري مع الحلفاء الأوروبيين، بعد أن أوضحت حروب البلقان أن فك هذا الارتباط، أو تقليصه، ليس خياراً ممكناً على الصعيد العملي. وعلى الرغم من ذلك، فإن العلاقة بين ضفتيْ الأطلسي لا زالت تواجه تحديات مختلفة، من قبيل حجم المشاركة في تحمل العبء الأمني على صعيد عالمي، وتباين المواقف الدبلوماسية حيال عدد من القضايا الدولية. وهذا بالطبع فضلاً عن الخلافات التجارية. وفي سياق موازٍ، جرت إعادة بناء واسعة للعلاقات الأميركية - الروسية، إعادة بناء أخرجت البلدين من طور العداء السافر، إلى حيث التعايش المحكوم بسياق تنافسي. وتُعد قضايا التسلّح، وتوسّع حلف شمال الأطلسي ( الناتو)، من أبرز القضايا الخلافية بين روسياوالولاياتالمتحدة، وذلك على الرغم من نجاح البلدين في التوقيع على اتفاقية ( ستارت – 2 )، الخاصة بتقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية. من ناحيتها، تطوّرت السياسة الأميركية حيال الصين إلى مرحلة "الصداقة الصعبة". وتم التخلي عن النظر إلى بكين باعتبارها عدواً. ولكن مع استمرار كونها مصدر "خطر محتمل". وظلت هناك قضايا عالقة، أو موضع توتر دائم بين البلدين، مثل تايوان، وصعود القوة الصينية في الباسفيك، والدور الصيني في أفريقيا، وحقوق الإنسان، والميزان التجاري، وسعر صرف اليوان. في أميركا اللاتينية، حيث الفناء الخلفي للولايات المتحدة، دفعت التطوّرات السياسية والملاحية باتجاه إعادة إحياء الأسطول الرابع الأميركي، في تموز/ يوليو من العام 2008، بعد ستة عقود على دمجه في الأسطول الثاني. وقد حدث هذا بالتوازي مع النجاحات التي حققتها واشنطن على صعيد اتفاقية التجارة الحرة بين الدول الأميركية. وعلى الرغم من ذلك، فإن وصول حكومات راديكالية في عدد من دول الإقليم، قد مثّل مصدر ضغط على المقاربة الأميركية فيه، وخاصة مع اعتماد بعض هذه الدول، مثل فنزويلا، برامج تسلّح واسعة، وتحالفها مع دول تبدي عداءً سافراً للولايات المتحدة. في أفريقيا، التي قيل إنها ستتوارى من لوحة الاهتمامات الأميركية بعد الحرب الباردة، تزايد حجم الحضور الأميركي، على خلفيات عدة، بينها تعاظم الأدوار الدولية المنافسة. وفي الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2009، بدأ الوجود الرسمي للقيادة العسكرية الأميركية الخاصة بأفريقيا، والمعروفة اختصاراً ب "أفريكوم"، والتي عبّرت عن توّجه جديد حيال القارة. في منطقة الباسفيك، قضت التوجهات الأميركية الجديدة بتعزيز التحالف مع اليابان، وحثها على تطوير قدراتها العسكرية، ونهوضها بأدوار أمنية خارج حدودها. وقد جرى، في الوقت ذاته، تطوير العلاقات الدفاعية مع استراليا، وتعزيز الوجود العسكري في جزيرة غوام. كما تطوّرت العلاقة بكل من سنغافورة وتايلاند. وعلى الرغم من ذلك، ظلت القضية الكورية بؤرة تحدٍ مديد أمام السياسة الأميركية في الباسفيك، وخاصة لناحية برامج التسلّح النووي والصاروخي لدى كوريا الشمالية، التي بات يُنظر إليها كمصدر تهديد للأمن القومي الأميركي، علاوة على كونها سبباً رئيسياً لزيادة سباق التسلح في المنطقة، ورفع منسوب التوتر بين الكوريتين. في جنوب آسيا، جرى إعادة توجيه العلاقة مع كل من الهند وباكستان. وقد نجحت الولاياتالمتحدة في تثبيت موضع قدم لها في سوق الدفاع الهندي، الذي ظل معتمداً، منذ عقود، على السلاح السوفياتي، ومن بعده الروسي. في المقابل، لم تتراجع مكانة باكستان في المدرك الاستراتيجي الأميركي، إلا أن حسابات واشنطن حيالها حملت قدراً كبيراً من التبدّل، في الفترة التالية مباشرة للانسحاب السوفياتي من أفغانستان عام 1989، والذي تزامن تقريباً مع انتهاء الحرب الباردة. وتعتبر الحرب الأميركية في أفغانستان، ونشاط المجموعات الباكستانية المسلحة في الداخل الباكستاني، والنزاع طويل الأمد بين الهند وباكستان، عوامل تأثير كبرى في مقاربة الولاياتالمتحدة لعلاقتها بالدولة الباكستانية. في أفغانستان، تبدأ هذا الصيف أولى مراحل الانسحاب الأميركي. إلا أن مستقبل الوضع هناك يبقى مرهوناً بالقدرة على خلق مصالحة وطنية، تحقق حداً أدنى من الاستقرار. على صعيد استراتيجي عام، عززت الولاياتالمتحدة من وجودها في المحيط الهندي، وباتت تتمتع بقدرات إجرائية واسعة في غرب المحيط وشماله الغربي، وذلك بموازاة قدراتها المتقدمة في قاطعه الشرقي. وعلى مستوى الشرق الأوسط، دفعت التطوّرات المتسارعة باتجاه إعادة رسم جزئي للخيارات الأميركية في الإقليم، على النحو الذي فعلته عند اندلاع الثورات الملونة في عدد من الدول السوفياتية السابقة. وقبلها إثر التحولات الكبرى في شرق أوربا، التي أعقبت سقوط جدار برلين. وعلى نحو مبدئي، يُمكن ملاحظة مسارٍ عريض من الأحداث التي فرضت نفسها على نحو متسارع على السياسية الأميركية في الشرق الأوسط. وفي المقدمة منها التحوّلات التي جرت في تونس ومصر. وتلك الدائرة حالياً على صعيد عربي، من المحيط إلى الخليج. إضافة إلى ذلك، يبرز الملفان الفلسطيني والعراقي باعتبارهما ساحة اختبار للدبلوماسية الأميركية في الإقليم. وفي العراق تحديداً، فإن استكمال سحب القوات من عدمه يؤشر إلى خيارات تلامس عموم المنطقة، ويضيء على الكيفية التي تقارب بها واشنطن الوضع الإقليمي الراهن. وفي بؤرة أخرى من الخليج العربي، يستمر الملف النووي الإيراني في الضغط على العلاقات الأميركية - الإيرانية. ولا يبدو ثمة أفق، أو بوادر، لحرب جديدة في المنطقة، إلا أنه من غير الواضح، في الوقت ذاته، ماهية المسار الذي سترسو عليه علاقة واشنطن بطهران، في ظل انسداد سياسي ودبلوماسي، مازال يرمي بتداعياته في كافة الاتجاهات الإقليمية. وعلى الصعيد الاستراتيجي العام، لازال الاحتواء يُمثل دليل السياسة الأميركية في الخليج العربي. وهو يستند مركزياً اليوم إلى فلسفة "الموازن الخارجي". وعلى نحو مجمل، فإن السياسة الأميركية في الخليج لم تشهد إعادة تعريف بالمدلول الاستراتيجي، وذلك منذ حرب الخليج الثانية. وعلى الرغم من ذلك، فإن حجم التفاعلات الأميركية مع دول الخليج قد تصاعد بوتائر سريعة، في العقدين الماضيين، إنْ على المستويات الأمنية، أو المدنية العامة..