تتعدد الولاءات التي يمكن أن تخترق حيادية المؤسسة، أي مدنية المؤسسة، وتتنوع، ولكن يبقى الاختراق الديني / المذهبي هو أشدها، ولا يتفوق عليه إلا الاختراق العسكري الذي يلغي مدنية المؤسسة من الأساس تدور اليوم رحى الأزمات المتتالية في دول "الربيع العربي" على خطوط التماس بين الديمقراطي واللاديمقراطي. إنها تتعقد ويزداد أُوارها بين إرادة التشكل من جهة، والواقع المستعصي على التشكل من جهة أخرى، وسابقا بين فهم الديمقراطية الحديثة (= المدنية) وبين الإرادات التي تتصدر (من غير جدارة) لموضعتها، بل بين إرادة الفهم وبين الإمكانيات المتاحة اقتصاديا ودينيا وسياسيا واجتماعيا لتحقيق الحدود الدنيا من تمثل الوعي الديمقراطي المأمول. من المستحيل تطويق الإشكاليات المتعلقة بديمقراطيات دول "الربيع العربي" لترتسم في خط مفاهيمي مستقيم. هي أعقد من ذلك، وأشد تركيبا، خاصة وأننا لا نحدها في الدول التي اجتاحتها الانتفاضات الغاضبة، حتى وإن بدت لأول وهلة أنها معقد الإشكال. فنحن إذ نطرحها (دول الربيع) كفضاء زاخر بالإشكاليات المتعينة، فإننا لا نعاينها في حدود واقعها المتعين فحسب، بل نعاينها إضافة إلى ما سبق من ناحية كونها وقائع ساخنة تُسائل مُجْمَل الخطاب الثقافي العربي المعاصر، ونتخذ منها أمثلة للإشكال الممكن، بقدر ما هي أمثلة للإشكال المتحقق. وهذا من شأنه أن يشد المتلقي إلى الكليات النظرية التي تحاول لملمة شتات الواقع المتناثر، حتى ولو على سبيل اختزال المبدأ الكلي في مثال. كلّما فتحنا كوّة معرفية نطل منها على معركة الإرادات التي حمي وطيسها في أكثر من بلد عربي؛ تلاحقنا الأسئلة الضارية على أكثر من صعيد. إنها أسئلة تتحدّى مُكوّناتنا الثقافية والأخلاقية؛ بقدر ما تتحدى قدرتنا على الفهم، لا على فهم تمظهرات الوعي المأزوم في فضاءات التأزم فحسب، وإنما على فهم ذواتنا أيضا. ومن هنا، تأتي الأسئلة حائرة؛ بقدر ما هي مراوغة ومُخادعة، وربما مُشاكسة ومُناكفة. نطرح الأسئلة الملغومة بأكثر من جواب من مثل: أين تكمن المشكلة؟ هل هي في العسكرة المتنفذة؟ أو في مشاريع التدين التقليدي، تلك المشاريع التي أصبحت مشاريع تجهيل بامتياز، أو في التركيبة العشائرية/ القبائلية المتخلفة؟ أو في الفقر والجهل والتخلف؟ أو في مخرجات الرخاء المادي الريعي في الدول غير الربيعية؟ في الواقع، أو في التاريخ، أو في صورة المستقبل في الوعي. وبعد ذلك، أين السبب وأين النتيجة في كل هذا، بل هل يمكن التفكير في كل هذا الواقع المعقد والمتشابك؛ بقدر ما هو متشظٍ، بل وبقدر ما هو متناثر إلى درجة انعدام المعنى على مستوى ثنائية: السبب والنتيجة؟ ويمكن أن نستدرج الأسئلة أو تستدرجنا؛ لنقول: هل الديمقراطية العربي هي " الطرحة"، أو الحجاب المخفف الذي يخفي الاستبداد العربي بقدر ما يبرز جمالياته / مفاتنه / مواطن الفتنة واحتمالية السقوط؟! مَن منّا يستطيع الاجتراء على رسم المعالم النظرية الشاملة التي تملأ فراغات هذه الأسئلة؟ خاصة وأنها فراغات مفتوحة على المجهول الزاخر بكل الاحتمالات. عندما تطرح مثل هذه الأسئلة (أو الأجوبة المغلفة) لن يقف الحاضر وحده أمامك، لن يتهددك ما تراه من قوى مهيمنة، بل الماضي سيحضر متمثلا في متعينات الحاضر، حتى ذاتك (كتراث، ومن ثم، كهوية ومعنى) ستكون أول من يتصدى لك، قبل أن يتصدى لك جهلك وخوفك وحرصك على مُناسَقة (الارتهان للأنساق المهيمنة) الواقع الاجتماعي والديني والثقافي والسياسي. لهذا، من العبث ومن الخداع للذات وللآخر المتلقي أن ندّعي أننا نستطيع قول كل ما نريد قوله في هذا المضمار، أقصد: أن نقوله في الوقت المناسب والمكان المناسب. ومن هنا، فهناك مسائل أوليّة فيما يتعلق بالمؤسسة الاجتماعية التي تجد أعلى درجاتها شمولية في الهيكل العالم للدول لم يتطرق إليها النقاش ولم تحفر الأسئلة أرضيتها المؤسسة، كما أن هناك مسائل أولية فيما يتعلق بالدين مؤسسة وثقافة لم توضع على طاولة التشريح المعرفي المحايد، المتمثل في البحث العلمي المتجرد من كل صور الولاء الثقافي، ومن الرغبة والرهبة بطبيعة الحال. في عالمنا العربي الذي تجمعه وحدة التصور الثقافي العام رغم كل صور التفاوت ومنازع التنوع ، لا تزال الأسئلة تطرح على أبجديات الرؤية المدنية، مِن مثل: مدى اتصاف المؤسسات بهوياتها كمؤسسات، أي مدى قدرة بنائها المادي المحايد على أن يكتسب صفة: مؤسسة، خاصة وأنها في معظم الأحيان ليست أكثر من فضاء تجمعي اعتباطي قائم على الولاءات الشخصية التي قد تتسع وقد تضيق حسب إمكانية الفضاء الاجتماعي على الاحتواء، ووفق درجة نفوذ الأشخاص. لم تكن (القذّافية) فيما يخص الموقف من المؤسسة بدعاً في العالم العربي. القذّافية كظاهرة تصدر عن شخص ولكنها تتجاوزه في الوقت نفسه كانت الصورة الفاضحة لنا، الصورة المعلنة عن المسكوت عنه، أو الصورة الصارخة بالألوان إلى درجة الاستفزاز. بمعنى أن القذافي وُجد في الوقت المناسب ليكون هو التكثيف الرمزي (حتى ولو كان أكثر من رمز أي حتى ولو كان واقعا طغيانيا مؤلما بما يتجاوز متطلبات الترميز) لأعطاب التصور العالم السائد في العالم العربي. القذافي لم يكن طاغية، عميلا، بهلوانيا، بل ومجنونا فحسب، وإنما كان أيضا هو الصورة المثلى، هو الرمز المعياري في حدوده العليا، وبقي ان الجميع يقترب منه أو يبتعد عنه بقدر حظه من (القَذْفَنة) التي كانت موضع تهكم وسخرية، بل وعداء؛ رغم أن الجميع ينطوي على شيء منها، ويجد ما يُحَفّزه داخليا، وربما بصورة غير واعية في معظم الأحيان للتماهي معها؛ لأنها في بُعدها الرمزي هي التعبير الصادق عن كراهية الأطر المؤسساتية، بل وكراهية ثقافة المؤسسات. (وربما هي التعبير المنتقم من المؤسسة التي اضطُر العربي إلى التعامل معها ولو في صورتها البدائية المعطوبة، بعد أن كان يسبح في فضاء الفوضى العبثية بلا حدود). لا ريب أن غياب المؤسسة من الواقع هو فرع عن غيابها من الوعي. المؤسسة لم تُوجد إلا بصورة مشوهة تكاد تخرج بها من حدود هذا المصطلح إلى أن تكون وهم مؤسسة. وحتى إذ وُجدت على هذا النحو، فهي مخترقة بما ينقض وجودها المحايد. والحياد في المؤسسة شرط وجود، وإلا لم تعد مؤسسة أصلا، وبالتالي لم تعد تؤدي وظائفها المنوطة بها، بل ربما قَلَبَها انتهاكُها؛ فمارست الدور المضاد. والحاصل أن المؤسسة إذا تنازعتها الهويات والولاءات والانتماءات لم تعد إلا مكان لقاء تآمري، يحل فيه التضاد والتنافر، وربما الاحتراب، محل التفاعل والتشارك الإيجابي. إن حيادية المؤسسة (والحياد لا يتوفر إلا في مستوى مَدَنيتها ابتداء) ليست هي التي تمنحها الهوية المؤسسية التي تُهَيّؤها للاضطلاع بوظائفها فحسب، بل هي التي تضمن لها ولاء المنتسبين لها على مبدأ التساوي. ويترتب على ذلك أن أي خلل يصيب مبدأ الحياد (ومن ثم الانتساب بالتساوي) فلا بد أن يخترق ضمانات الولاء، حتى الولاء الطبيعي سيكون حينئذٍ قابلا للاختراق. تتعدد الولاءات التي يمكن أن تخترق حيادية المؤسسة، أي مدنية المؤسسة، وتتنوع، ولكن يبقى الاختراق الديني / المذهبي هو أشدها، ولا يتفوق عليه إلا الاختراق العسكري الذي يلغي مدنية المؤسسة من الأساس. إن مجرد ربط المؤسسة المدنية بهوية دينية أو مذهبية (بصرف النظر عن ماهية هذا الدين أو هذا المذهب) يعني أنها لم تعد تتمتع بحيادها المدني، ومن ثم لم تعد مؤسسة بالمفهوم الحديث. فإذا أضفنا إلى ذلك كون الدين أو المذهب الذي اخترق المؤسسة، وجرّدها من مدنيتها، مدموغا بتأويلات متحيزة لهذا الفريق أو ذاك، أو بتصورات مغرقة في ماضويتها، فإن المؤسسة لن تكون عبئا ماليا وإداريا ونفسيا عديم الجدوى فحسب، بل ستكون أيضا مصدر إنتاج وتوزيع وتعميم لكل الصور السالبة الكامنة في مسارات التعصب / التحيّز، ولكل الإعاقات المرتبطة بالتصور الماضوي. يعرف كل من لديه أدنى إلمام بعلم الاجتماع الديني أنه يستحيل فصل الدين فصلا تاما عن المؤسسة المدنية؛ لأن هذه المؤسسة ليست إلا وجودا منظما (بصورة ما) للوجود المجتمعي. الوجود المجتمعي هو الحاضن للتصور الديني، بل التصور الديني يستحيل أن يتمظهر إلا من خلال تجسده في المجتمع، سواء في مستوى الوجود الفردي أو في شبكة العلاقات الاجتماعية ال(ما دون مؤسساتية). وبما أنه كذلك؛ فالعلاقة بين المؤسسة التي يفترض فيها الحياد، والدين من خلال وجوده المتعين في الواقع الاجتماعي، علاقة خطرة، يجب أن يتم التعاطي معها بحذر؛ كيلا تكون مدخلا لتديين المؤسسة بالدرجة التي تفقدها بُعدها المؤسسي. في المستوى النظري، وفي مستوى التطبيق العملي، يستحيل تمدين المؤسسة بالكامل. لكن، هذا لا يعني تركها نُهبة لأشد أنواع الاختراق خطورة. فأن نضع مدنية المؤسسة شرطا أوليا مضمونا على مستوى القانون نصا، وعلى مستوى الوفاق الاجتماعي، من شأنه أن يكفلنا الحد الأدنى، أو الحد المستطاع ابتداء. ومن ثم يجري العمل على تفعيل هذا المبدأ قدر المستطاع، وتكون هناك عملية (فَلْتَرة) لكل ما يتقاطع مع المؤسسة من أنظمة ومعاملات، بحيث يتم عرضها على محاور الاستشعار المدني في مجالي القانون والثقافة. ولا بد أن تبقى مسائل خلافية، ومساحات توتر، فلا حلول جاهزة ولا نهائية في هذا المجال بالذات، خاصة وأن زعزعة البنى الذهنية السائدة بالمواجهة التامة، وإلزام الواقع الاجتماعي المتخلف بما يتجاوز حدود وعيه قد ينقلب إلى العكس، ويكون النفور الذي ربما يصل إلى درجة العداء الصريح هو نصيب عملية التمدين؛ جراء محاولة الانتقال قفزا من حال إلى حال. نحن ندرك أن مجتمعات التخلف التي نعترف بأننا جزء من مكوناتها، لا تزال تمنح ولاءها الصريح و"الفصيح!" لشبكة العلاقات القَبْلية، أي ال(ما قبل مدنية)، إلى درجة أنها على استعداد للموت في سبيلها! وهذا يعني أن نقل محور الولاء من إطاره ال(ما قبل مدني) السابق إلى إطاره المدني هو من أصعب الأمور، وهي رحلة طويلة لا تقطعها الأمم إلا في مدى ثلاثة أو أربعة أجيال. هذا في أحسن الأحوال. أخيرا، يجب الوعي بأن الدين بطبعه حيوي وتفاعلي. وإذا ما جَمَد أو تعصَب أو انغلق فإنما نحن الذين نُجَمّده ونُعصّبه ونُغلقه. وعلى هذا، فالدين يمكن أن يستجيب لمتطلبات المؤسسة المدنية، بل ومن قبل للتحولات الاجتماعية. وكما يؤكد علماء الاجتماعي الديني (راجع كتاب سوسيولوجيا الدين، لدانيال هيرفيه ليجيه وجان بول ويلام)، فالبروتستانتية تُعْتَبر دينا برجوازيا مقابل دين الإقطاع الكاثوليكي. بل لقد أثبتت تجارب التاريخ، التاريخ الديني والتاريخ الواقعي، أن الدين يستطيع أن يُضفي المشروعية على الشيء وضده (عبر مسافات التأويل التي ترافق الفاعلية البشرية ضرورة)، فهو (الدين) تبعا لزاوية الرؤية التأويلية قد يدعم الخضوع، كما قد يدعم التمرد، وقد يقف في صف الأقوياء المتنفذين، كما قد يقف في صف أولئك المستضعفين. وبما أن الدين مطواع على هذا النحو، فهو عرضة للتلبس من كل أحد. وعلى هذا فيجب على المؤسسة أن تفرض مدنيتها، لا في مواجهة الدين ذاته، أي كخطاب مُتعالٍ، إلهي، مقدس، بل في مواجهة الأهواء التأويلية التي لا تعكس إلا مصالح أصحابها؛ حتى ولو زعموا واعين أو غير واعين أنهم لا يمثلون إلا صحيح الدين.