الدين في أصله خطاب مُوجّه إلى الفرد في مستوى أبعاده الروحانية، بحيث ينطق من الداخل إلى الخارج، ومن الفرد إلى الجماعة. ومن ثم، فهو خطاب يقبل من حيث المبدأ واقعة الخلاف كما يقبل هُويّة الاختلاف؛ لأنه مخططه الأولي فرداني روحاني بالضرورة؛ لا يضيره التنوع مهما كان مستوى التباين الذي يُمايز بين فصائل المتدينين. ومن هنا، فالطائفية ضرورة دينية، بقدر ما هي حقيقة اجتماعية واقعية، لا يستطيع الفرد إبان تجاوزه لوجود الفردي تجاهل هذه الحقيقة ولا تلك الضرورة التي هي من طبيعة وجوده الاجتماعي والإنساني. إذن، ليس التأزم في العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع نابع من من الاختلاف الروحاني دينياً ومذهبياً وطائفياً، وإنما هو نابع من الخطوة اللاحقة، أي من تسييس هذا الاختلاف، وذلك عن طريق فرضه كمُوّجه سياسي، سواء في مستوى الفعل العيني المباشر (أي كدافع، ويحدث هذا بطبيعة الحال بواسطة التكامل مع دوافع أخرى)، أو في مستوى مقاربة الفعل الذي يتجلى في مجمل محاولات المحللين والمفسرين والمبررين. أي متأمل لواقعنا قبل تاريخنا يدرك أن كل ما نراه من صور التأزم الطائفي ليس نابعاً من ذات الاختلاف الديني، وإنما هو نابع من تسييس هذا الاختلاف، ونقله من مستوى الخطاب الروحاني الفرداني إلى مستوى الخطاب الإيديولوجي الذي يتغيا الفعل / التأثير في الفضاء الاجتماعي العام. ما نراه يبدو كصراع بين طوائف دينية هو في جوهر دوافعه صراع بين أطياف سياسية، قد تتوسل بالمفردة الطائفية إلى غاياتها، ولكنها لا تتحرك بقوة دفعها، ولا تعدها الغاية القصوى، ولا الغرض الأسمى؛ إلا في مستوى الشعار المعلن، الشعار الصاخب الذي يُخفي أكثر مما يعلن؛ لأنه لا يهدف إلا إلى الحشد والتجييش و(تكثير السواد) ولو بجماهير الغوغاء. صحيح أن كثيراً من المفردات الدينية الطائفية نشأت وتطورت لغايات سياسية، وأن دهاقنة السياسة هُم مَنْ سهر عليها حتى أصبحت على ما هي عليه الآن. لكن، يبقى أن المتدين الجماهيري / الشعبي يتلقاها بمستواها الروحاني، ولا يستطيع بمفرده، أو بتدينه الفردي أن يجعلها آلية احتراب اجتماعي / سياسي، رغم كل الإيحاءات السياسية التي تكتنز بها ابتداء، والتي هي من أهداف سدنة الخطاب بشكل عام. اليوم، يوجد التنوع الطائفي في معظم الأقطار الإسلامية على اختلاف في درجة الكثافة ومستويات التنوع. يكاد يكون التنوع الديني/ الطائفي هو الأصل. وبقدر ما كاد يكون هو الوضع الطبيعي؛ بقدر ما كاد يكون هو السائد الذي لا يجوز أن يتسبب بأي توتر أو انزعاج. لقد بقي التنوع مصدر ثراء معرفي واجتماعي في معظم البيئات التي تزدهر بمثل هذا التنوع الممتد في العمق لمئات السنين. وقد تعايشت معظم هذه الطوائف بسلام على امتداد تاريخها الطويل، والصراع الذي حدث في بعض الأحيان، لم يكن بسبب هذا التنوع. والدليل على أن التنوع لم يكن سبباً في الصراعات التي حدثت (حتى وإن تم توظيفه في بعث الحدث وتأجيجه) أنه قد وقع ما يتجاوزها خطورة بين أبناء الطائفة الواحدة، ما يعني أن الاختلاف الطائفي لم يكن في حقيقته المصدر الحقيقي للصراع، مع أن الرايات المرفوعة في الصراع كانت طائفية بامتياز. السلام الذي خيّم على هذا الفضاء المزدهر بكل أشكال التنوع الطائفية في كثير من فترات تاريخنا القريب لم يتبدد بفعل توهج نقاط التمايز بين طائفة وأخرى، بل تبدد بفعل تُجار السياسة الذين وجدوا فيه بيئة خصبة لزرع بذور الاحتراب، خاصة وأن معظم جماهير هذا التنوع الطائفي غارقون في همومهم الطائفية الضيقة، ومنغلقون أشد ما يكون الانغلاق على تصوراتهم الذاتية عن الآخر، بوصف الآخر محور البراء المفترض، بدعوى أنه محور الشر والزيف والخطأ المحض، كما وأن الأنا هي محور الولاء المفترض أيضاً، بدعوى أنها محور الخير والحقيقة والصواب المحض. ورغم أن ذلك يجري على مستوى الادعاء والتخيل في البداية، إلا أنه ينتقل من مستوى التخيّل والادعاء إلى مستوى التطبيق العملي قبل أن يمر بمرحلة الاعتقاد الجازم، وذلك بمجرد دخول السياسة على الفعل والانفعال. لقد تنامت الانقسامات الطائفية وتأججت في عالمنا العربي؛ لأن أسهل طريق للتسيد والتزعم في المجتمعات البدائية (الماقبل حداثية) هو أن تكون مُزايداً على المفاصلات الطائفية. ويدرك التواقون للتسيد والتزعم أنك كلما كنت أشد حدية وعدواناً تجاه الآخرين المختلفين عنك دينياً ومذهبياً، كنت أقرب إلى تحقيق أهدافك السلطوية، وأن زعامتك تتنامى في مثل هذه المجتمعات البدائية التي لا تزال تعيش زمن داحس والغبراء كلما كنت أشد تعصباً وتأكيداً على نقاط المفاصلة والاختلاف. إن هذا يعني أن ثمة إغراء لا يُقاوم لكل من يُحاول تحقيق أحلامه السياسة في أقصر مدة، وبأقل ثمن (أقصد الثمن الفردي، وإلا فالمجتمع يدفع أثماناً باهظة كثمن لطموحات هؤلاء المعتوهين)، حيث يسهل على أي مُتعالمٍ أن يؤجج لهيب الاحتراب الطائفي بالضرب على أوتارٍ مذهبية ذات حساسية داخل كل طائفة في مواجهة الطوائف الأخرى، فتحاول جراء ذلك جوقة الحَمْقى والمُغفلين الانتصارَ لما تتوهمه حقيقة ويقيناً أزلياً في صلب معتقدها الديني / المذهبي، بينما هي لا تنتصر إلا لمحترفي اللعب على فراغ غبائها العريض. اليوم، ترتفع الرايات الطائفية إلى أعلى سماواتها، ويكاد النعيق الطائفي أن يكتسح كل ألحان المحبة والسلام التي باتت تتوارى في هذا العالم الطائفي المجنون. حتى في أكثر الأقطار العربية تسالماً مع ما يخص الاختلاف المذهبي بات هذا الاختلاف مصدر خطر؛ ما يؤكد أننا كلنا في مرمى الخطر، خاصة وأن السياسة قد رمت بعود الثقاب، فرفع سدنة خطاب الكراهية أصواتهم النارية على ما يشبه الوقود القابل للاشتعال. دعاة الفتنة الطائفية ابتهجوا بانفتاح أبواب الكراهية على أبواب جهنم، فتوهج خطابهم بلغة الانتصار على وعود المجتمع المدني، متوهمين أن القرون الوسطى ستنبعث من جديد على أيديهم، وأنهم سيجدون لبضاعتهم الطائفية الكاسدة سوق رواج. لم يسبق أن تمايز العالم العربي طائفياً على هذا النحو الذي يحدث الآن. الجميع بلا استثناء مسؤولون عن هذا الاصطفاف الطائفي الذي تتشظى بسببه مكونات الاتساق في الواقع، قبل أن تتشظى مجمل الرؤى الحاكمة لهذا الواقع. اليوم، لا براءة لأحد منا، رغم تفاوت درجات الإسهام، ورغم أن تحديد النقطة الافتراضية لبدء هذا الصراع مهمة مستحيلة، وغير ذات جدوى في المضمار، المهم أن الجميع قد أسهم في الفتنة بدرجة ما، حتى ولو بالصمت عنها أو تهوينها في أي فترة من فترات الاحتراب الكلامي الذي أُتخم بها إعلام الفضاء. لا ينكر أحد أن أخطر وأكبر أنواع الصراعات الطائفية التي تتهددنا اليوم هي الصراع الدائر في هذه المرحلة بين السنة والشيعة، وهو الذي يكاد يقسم العالم العربي إلى معسكري صراع. طبعاً، لا يعني اتساع فضاء هذا الانقسام أنه انقسام مشطور بحدية وتمايز يستحيل معهما تداخل الأجنحة وتكامل المحاور، بل يعني فقط أن سؤال الهوية الطائفية بات يفرض صراعاً ما، صراع طائفة مع طائفة، أو حتى داخل الطائفة الواحدة لحساب الطائفة الأخرى. وبطبيعة الحال، لن تُعوز هذا النوع ولا ذاك النوع بعض المبررات التي يتقدم بها حَفّارو قبور هذه الأمة بين يدي مراسم دفنها، هذه الأمة التي تبدو وكأنها تنتكس أو ترتكس، راجعة مئات السنين إلى الوراء. كثيرون يتساءلون: من المسؤول عن هذا الاحتراب الطائفي، هل هو النظام الأسدي والحزب الإيراني في لبنان الذي يتحرك قولاً وفعلاً بأيديولوجيا ذات نفس طائفي واضح، أم هم التقليديون المتعصبون الذين رفعوا راية الاحتجاج / الثورة الطافحة بالهم الطائفي؟. لا يهم من بدأ، لا يهم من فتح الباب الموارب، المهم أن الجميع بات يسهم في رفع إنتاج الفتنة الطائفية وفي تصديرها وفي تعميمها على أوسع نطاق. إن المشكلة الأساس في هذا السياق تتحدد في أن الجماهير بقوة زخمها هي التي توجه شراع الحدث، والأعمق إشكالاً أن هذه الجماهير لا تزال مرتهنة إلى تلك التفاسير المهترئة التي يتقدم بها التقليديون(من كلا طرفي الصراع) الذين يزعمون لهذه الجماهير البائسة، هذه الجماهير التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الوعي السياسي، أن الصراع محض صراع عقدي؛ حتى ولو كانت طبيعة السياسة ترسم بألوانها الفاقعة كل معالم الصراع. مثلا، كيف يعي الجماهيري البسيط أن الإرهاب الذي يمارسه الحزب الإيراني اللبناني لا ينبع من مرجعيته الدينية / المذهبية، أي من كونه شيعياً، كيف يعي أنه حزب إرهابي لأنه يتبنى الرؤى الإرهابية، ويمارس فعل الإرهاب، وليس لأن هويته الشيعية تدفعه باتجاه الإرهاب. الرؤى التي تمتلك طاقة كراهية وعنف موجودة داخل كل مذهب، بحيث لا يختص بها مذهب دون آخر، وهي كامنة تنتظر نبشها وتنميتها، أي تنتظر قولبتها تأويلياً لتستجيب لتطلعات المؤسسة الإرهابية التي تعمل على الاستفادة منها (وهي سياسية بالضرورة، حتى ولو كانت بواجهة دينية)، ولو على حساب حقائق الدين / المذهب وأصوله، فليس المهم أن ينتصر المذهب في هذه الرؤية المُسَيسة، بل المهم أن ينتصر المتمذهبون !. زعيم تنظيم القاعدة الهالك، ونائبه: الظواهري، والزرقاوي، ويوسف العييري، وعبدالعزيز المقرن، وحسن نصر الله، وبشار الأسد، كلهم زعماء لفصائل إرهابية، بصرف النظر عن هويتهم المذهبية التي يتبجحون بشعاراتها. والمعنى أن كل هؤلاء منخرطون في تنظيمات سياسية إرهابية، تمتهن الإرهاب وفق مرجعيتها، ولو أن أياً من هؤلاء قد غيّر مذهبه إلى المذهب الآخر؛ لما تغيّرت رؤيته الإرهابية، ولا تراجع عن إجرامه؛ لأنه سيبحث أياً كان موقعه المذهبي عن سند ايديولوجي ينتظم نزوات الإجرام لديه، ويخرجها في صورة مثالية يتقبلها الجمهور الطبيعي، خاصة وأنها ستبدو بفعل قوة الإيحاء الإيديولوجي وكأنها نضال مقدس ضد أعداء الله وأعداء الإنسان. يغيب عن وعي أكثر الناس ( وخاصة في لحظات الاصطفاف الطائفي ) أن الحرب تدور أكثر ما تدور بين أبناء المذهب الواحد والطائفة الواحدة، وليس بالضرورة بين أتباع الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة. فالحرب العالمية الأولى والثانية كانتا بين مسيحيين، وحروب المسلمين الأوائل كانت بين مسلمين أيضا، من طائفة واحدة، وأحياناً من مدرسة واحدة، بل وربما كانوا رفقاء جهاد ونضال، فتصافحوا من بعد ذلك بظُبى السيوف وأطراف الرماح. كل هذا يؤكد أن الدين / المذهب ليس دافعاً جوهرياً للحرب. طالما قتل السنةُ السنةَ، وطالما قتل الشيعةُ الشيعةَ؛ وإن بصورة أقل؛ لأسباب تتعلق بالوضعية السياسية التي كانوا عليها (أي كمعارضة تتحمل الغرم، وتتضاءل فرصتها في المغنم السياسي). المهم أن التاريخ القريب والبعيد يؤكد لنا دوافع الحرب أكبر من كل ما يتلهى به المُحبطون الذين يرفعون همومهم من جدلية الواقع الأرضي المرتهن بالعيني المباشر إلى جدلية تبحث في الماوراء، والتي لا بد أن تؤدي إلى اتساع مساحة الاختلاف؛ لأن الإحالة في كل الأحوال على واقع لا يمكن التحقق منه بحال. مأساة، وأيما مأساة، أن تتجمهر ( تتوسع على المدى الجماهيري ) غباوات التفكير المذهبي. لأول مرة في حياتي يطرح عليّ بعض عامة المصريين سؤالاً طائفياً غبياً يتحدد في: هل أنت سني أم شيعي؟. قبل سنتين لم يكن هذا السؤال محل جدل، وخاصة في مصر التي لم تعرف مثل هذا التمايز بين السنة والشيعة. الأحداث السياسية الراهنة رفعت السؤال إلى واجهة الحياة اليومية، وكاد هذا السؤال اليوم أن يصبح وخاصة بعد الأزمة السورية سؤالاً حياتياً بعد أن كان سؤالاً ثقافياً يعيش على ترف الانتماءات. من المؤلم أن إجابات الناس على مثل هذا السؤال الطائفي تنضح بالجهل والتجييش الطائفي الأعمى الذي باتت تفترس به القنوات الفضائية الطائفية عقول هؤلاء البسطاء. كثيراً ما تجد المعلومات المغلوطة الممهورة بجرعات الكراهية هي ما وفرته قنوات الحقد الطائفي لهؤلاء الذين لا يعرفون عن أشقائهم المهذبيين غير ما يتبرع به لهم دعاة التعصب المتاجرون بأرواح الأبرياء من كلا الفريقين. لقد أصبحت الكراهية الطائفية شيئاً مألوفاً، انتقلت من محاضنها التعليمية داخل كل مذهب إلى مستوى الوعي الجماهيري العام. هنا نرى كيف يصنع التنابز العقائدي (ولا أسميه حواراً) على القنوات الفضائية بيئة صراعية قابلة للاشتعال. مجرد حدث سياسي عابر في التاريخ كالأزمة السورية كان سيكون محدوداً في مجاله الحيوي. مثل هذا الحدث لم يكن ليجعل من الناس / الجماهير العامية أطرافاً في الصراع على أسس طائفية متخمة بالأحقاد؛ لو لم يكن سدنة خطاب الكراهية يتربعون على عروش الفضاء، يصوغون عقول وقلوب ملايين البؤساء على ما تشتهي عقولهم الصغيرة التي تتحكم بها نزوات الإنسان البدائي. إنهم يتحركون بحرية قاتلة، أي بلا قوانين مدنية رادعة تضع خطاب الكراهية على رأس الجرائم العنصرية التي يستحق مُرَوّجوها أشد أنواع العقوبات ردعاً؛ حتى لا نصحو ذات يوم وقد رسونا على شواطئ الإرهاب.