هل يستطيع الوعي العربي - الإسلامي العام أن يتحرر من الوعي الديني - الكهنوتي المنداح على امتداد فضاءاته في الجغرافيا والتاريخ ؟ هل يستطيع هذا الوعي ، في سياق بحثه الراهن عن الكرامة الإنسانية المتمثلة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، أن يمارس عملية تحطيم الأصنام في الواقع ، قبل أن يمارس عملية تحطيمها في الثقافة والتاريخ ؟ هل التغيير الذي يتغيا الأبجديات الأولى للكرامة الإنسانية مجرد شعار مقطوع الصلة بشروطه : شروط الثقافة وشروط الواقع ؟ بصيغة أخرى : مَن لا يستطيع طرح الأسئلة والاعتراضات على تاريخه المُحصّن بالأوهام وبالقداسات ؛ كشرط أولي للتحرر والتقدم ، هل يستطيع أن يطرحها على واقعه الماضوي المُحصّن بثنائية الترغيب والترهيب ؟ ...إلخ تلك الأسئلة المقموعة والمشروعة في آن ! لا شك أن مَن يهرب من مُساءلة ماضيه ؛ سيهرب من مساءلة واقعه حتماً. وبما أن وعينا ماضويّ في تياره المهيمن الذي يُشكّل عالمنا الراهن (= واقعنا)، فإننا لن نغامر عندما نجزم يقيناً باستحالة القيام بأي تغيير للواقع العربي - الإسلامي المأساوي المُتطاول منذ قرون ؛ دون تفكيك بنية الوعي التاريخي الذي يصنع عالم اليوم : عالم المأساة الذي يبدو كقَدَر نافذ لا تستطيع الأنا المتحررة أن تنفذ من أقطاره بسلطان، ولا بغير سلطان . كل أحزاب المعارضة ، وكل تيارات الاختلاف ، وكل جماعات الرفض ، وكل حركات التغيير (فضلا عن الأنظمة المهيمنة) ستعيد - في كل خطوة من خطواتها التغييرية أو التطويرية أو التقدمية أو الاصلاحية - إنتاج هذا الواقع المأساوي إذا ما تمكنت من الهيمنة بأية صورة من صور الحكم أو التحكّم ؛ لأن البُنى الذهنية هي ذاتها عند هؤلاء وهؤلاء ، لم تتغير بعد ، ويبدو أنها لن تتغير في سياق هذا النمط الانكفائي - الانغلاقي من التفكير . لقد قلتُ في المقال السابق : " عندما تقوم بقراءة واقع تلك الأحزاب - التيارات المدنية المعارضة ، ومن ورائها الأنظمة الحاكمة المتعلمنة بنسبة ما ، تجد الروح الكهنوتية طاغية إلى حد كبير ، حيث قداسة الأفكار وعصمتها ، وحيث قداسة الأشخاص وادعاء معصوميتهم ، وحيث التراتبية ، ومن ثم اللامساواة ، وحيث الحصانة المقترنة بالمنصب أو الموقع أو المكانة الاعتبارية ...إلخ ، كما هي الحال في الكهنوت الكنسي الصريح ، وأحيانا ، كما هي الحال في الكهنوت الوثني الصريح " . وهذا بلا شك يعكس حقيقة طغيان البُنى البطركية ، كما حلل بعض ملامحها هشام شرابي ؛ لأن ما يحدث على مستوى الوحدات الاجتماعية الصغرى ، يحدث بصورة أقوى وأوضح وأشد على مستوى الوحدات الأكبر التي تعكس طبيعة الحراك السياسي العام . كثيرون ممن يتعاطون الهمّ العام ، ليس من أبناء التيار التقليدي فحسب ، يرون أن التغيير الحقيقي ممكن ؛ رغم كل صور التشبث الهوسي بالتراث وبالموروث، وبكل ما يتناسل عنهما من أعراف وتقاليد على مستوى الفكر وعلى مستوى المُحدّد السلوكي المُتعيّن . إنهم منهمكون حتى التيه في ثنائية الوهم : الأصالة والمعاصرة ، الثنائية التي يلعب عليها النسق التقليدي - المحافظ ، لا للتقدم بضع خطوات محسوبة إلى الأمام ، وإنما لمجرد الالتفاف المراوغ ؛ بغية تثبيت الراهن في الأعيان ، وشرعنته في الأذهان . الخليفة الراشد : عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - جاء يحمل إرادة من فولاذ ؛ من أجل تغيير الواقع المأساوي الذي نتج عن الطغيان الأموي الذي استمر قبله لأكثر من ستين عاما يترسخ ويتجذر ويتعملق حتى بلغ السماء . جاء عمر بن عبدالعزيز من أجل التغيير ، ولكن في واقع يفتقد شروط التغيير ، بل في واقع يمتلك شروط استمرارية ما هو عليه . وفي سياق كهذا ، كان من المتوقع أن يغيّر الواقعُ عمرَ ، لا أن يغير عمرُ الواقعَ . لكن ، ولأن عمر كان صادقا أشد ما يكون الصدق ، وصارما أشد ما تكون الصرامة ، ومُريدا للتغيير أشد ما تكون الإرادة ؛ بحيث يستحيل أن تتحطم عزائمه على صخر الواقع الصلد ، ولأن الواقع الطغياني كان راسخا وقويا ومتجذرا بحيث يستحيل أن يستجيب لمثل هذه الإرادة مهما كانت صادقة وقوية ؛ لأنها في النهاية إرادة فردية أو شبه فردية ، فقد ألغى الواقعُ عمرَ ، ألغاه بأقصى صور الإلغاء (= التصفية الجسدية) ؛ لأن هذا الواقع فقد الأمل في أن يُغيّر عمر ، فلم يكن له من سبيل إلا أن يمحو عمر من الوجود . كانت تجربة عمر الاستثنائية أشبه بحُلم جميل ، حلم عابر يستحيل أن يتحقق في الواقع ؛ لأن عمر لم يراهن على تغيير الأنساق الفكرية ، وتفكيك البنى الاجتماعية الداعمة للتصورات الطغيانية ، ومن ثم إعادة تركيبها من جديد . تصور أن التغيير الحقيقي من أعلى الهرم ممكن ؛ حتى ولو كانت كل البُنى الذهنية والاجتماعية تعمل على الضد من هذا التغيير المأمول ، فلم يُغيّر ولم يَتغيّر ، وإنما خرج من حلبة الصراع إلى الأبد . وهذا يدل على أن الإرادة الصادقة ، وقوة العزيمة ، بل وامتلاك كثير من مُقوّمات القوة ، لا تكفي ؛ دون أن تكون الخلفية المعرفية قادرة على قراءة الواقع من جهة ، وعلى الوعي بشروط التغيير من جهة أخرى . اليوم في مصر وتونس وليبيا وسورية وصلت المعارضة إلى الحكم أو تكاد . في مصر ، الإخوان والسلفيون هم الذين سيقودون الدولة والمجتمع ، على الأقل في حدود المدى الزمني المنظور . وهم قادمون لا لإكمال مسيرة واعدة ، ولا لاستنفاد مُقدّرات خطة سابقة ، وإنما قدومهم - كما يطرحونه على مستوى الشعار المعلن - قدوم متشرعن بالرهان على التغيير ، التغيير الكبير نحو الأفضل ، والذي هو - بالضرورة - المختلف أشد ما يكون الاختلاف ، والمغاير أشد ما تكون المغايرة لكل ما سبق ؛ لكون كل ما سبق بات يُنظر إليه بوصفه مشروع تدمير لا مشروع تعمير . لقد تفاجأ كثيرون بالتصريحات (التي توصف بالمطمئنة) الصادرة من قِبل الإخوان والسلفيين ، سواء ما يخص العلاقة مع الآخر ، الغرب عموما ، وإسرائيل خصوصا ، أو ما يخص الحريات ، وتحديدا ما يمس قطاع الساحة بوجه خاص ؛ لأن التصريحات ، وخاصة من الشخصيات المسؤولة في كلا الحزبين ، تكاد أن تصل إلى ذات المربع الذي كان يقف فيه النظام السابق ، أو هي لا تتجاوزه إلا بدرجة ما ، وأحيانا لا تتجاوزه إلا في التطبيق الصادق لمجمل رؤاه العامة . أي أن هؤلاء الذين يفترض أنهم النقيض الفكري للنظام السابق ، سيكونون أوفى للرؤى الأساسية للنظام السابق حتى من النظام السابق نفسه . ما يعني أن التغيير الذي حدث لم يكن أكثر من انقلاب ، انقلاب تتغير فيه أسماء الشخصيات النافذة ، بينما الطبيعة الأساسية للفكر النافذ ستبقى كما هي عليه دون أي تغيير ، وسيبقى التغيير في الأشخاص مجرد تبادل في الأدوار.. هذا طبيعي ، بل ومتوقع ؛ عندما تكون الحركات المعارضة منقوعة في الثقافة الاجتماعية ذاتها التي أفرزت النظام الحاكم نفسه . مثلًا ، ما حدث في مصر من إطاحة بنظام مبارك ، هو في وجهه الأبرز ، إطاحة بمشروع التوريث الذي كان يجري في العلن أكثر مما كان يجري في الخفاء . لكن ، لم يكن المشروع رغم غرابته الظاهرية في نظام جمهوري خروجاً على النسق المعرفي المهيمن في الوحدات الاجتماعية الصغرى ، بل حتى في أعلى طبقات الهرم السياسي . فقد كتب المفكر السياسي المصري : مأمون فندي عدة مقالات عن العلاقات العائلية التي كانت تربط بين وزراء العهد السابق ، حيث هذا الوزير ابن خالة هذا الوزير ، أو ابن عمته ، وهذا صهر هذا ...إلخ شبكة العلاقات العائلية المتمددة في مفاصل النظام . هذا في النظام . لكن هل كانت الحركات المعارضة تعيش حياتها الخاصة والعامة (= السياسية) خارج هذا النسق الثقافي ؟ إذا كان الجميع يعرف أن أحزاب المعارضة كانت تُدار بنفس الروح الثقافية التي كانت تُدار بها الدولة آنذاك ، فإن تحوّل جماعة الإخوان ، ذات التاريخ الطويل في المعارضة ، إلى أشبه بطبقة اجتماعية نتيجة علاقاتها العائلية المتواشجة مع بعضها البعض ، ربما كان مفاجئاً لكثير من الحالمين . فالجماعة منذ خمسة عقود تقريبا لم تعد تستقطب كوادر جديدة إلا فيما ندر ، والنمو العددي الذي حدث إنما كان بفعل تضخم عدد أفراد الأُسر الإخوانية التي اعتنقت الفكرة الإخوانية ، وارتبطت بالتيار أو بالتنظيم على مدى نصف قرن تقريبا . بل إن علاقات الاقتصاد قبل علاقات الفكر تتشابك فيها الروابط العائلية الإخوانية داخل التيار ، التيار الذي هو - في أصله - رؤية فكرية أممية خلاصية . أي أن البنى الذهنية والنفسية التي تحكم سلوكيات الإخوان ، هي ذاتها التي كانت تحكم سلوكيات النظام السابق ؛ مع مراعاة الاختلاف الطفيف - درجة ونوعاً - في المبادئ والشعارات . هذا يعني أن الاعتراض العلني على مشروع التوريث في مصر لم يكن اعتراضا حقيقيا ، لم يكن اعتراضا ثقافيا ناتجا عن إعادة فحص وظائف علاقة القرابة على ضوء التطور الحاصل ، والتطور المأمول في المجتمع المدني . مشروع التوريث الذي أُسقط في مصر إن هو إلا نتاج بُنية ثقافية - اجتماعية راسخة في الأعماق ، بُنية مُستحكمة لم يتم تفكيك أنساقها بعد . ولهذا نجد أن هذه الثقافة تحكم الجميع ، فحتى البيئات الاجتماعية التي يُفترض أنها معزولة عن الوضع الثقافي السائد اجتماعياً ، نجدها تخضع ، وربما أكثر من غيرها ، للعلاقات القرابية (= الما قبل مدنية) ، كالبيئة الفنية (= التمثيل والغناء ) في مصر مثلًا . فهذه البيئة ، وكما رصدها طارق الشناوي في مقال له في (الشرق الأوسط) الأحد الماضي ، هي بيئة خصبة لعلاقات القرابة ، بحيث أصبح التوريث فيها طاغيا إلى حد كبير ، بل إلى حد الفضيحة الفنية في كثير من الأحيان . إذن ، في العالم العربي - الإسلامي ، لا جديد . فالوعي الثقافي السائد على مستوى الأنظمة ، هو ذاته السائد على مستوى التيارات المعارضة ، وهو السائد على مستوى التكتلات الاجتماعية الصغرى ، وهو السائد حتى على مستوى الفنون . وما لم يجرِ تغيير حقيقي يُجرّف الأعماق ، ويُعيد استنبات تربة الوعي من جديد ، فكل تغيير يُطرح هو خداع عن التغيير الحقيقي ، التغيير الذي تُعقد عليه الآمال بأن ينقل العرب من حال إلى حال .. نقلا عن الرياض