لا أعتقد أن هناك ملحمتين أعظم من ملحمتي الشاعر الحضرمي ربيّع بن سليم "بروق الظفر" والشاعر النجدي محمد العوني "الخلوج" ، فكلتا الملحمتين تنتميّان للشعر الحماسي/السياسي وتتقاربان في الأحداث التاريخية بل والحقبة نفسها التي قيلت فيهما الملحمتان اللتان تشعّان بحب الوطن والأرض، وقد جاءت نهاية قافية كل منهما على حرفي الهاء والألف وعلى نفس الوزن وهو الطرق الهلالي الطويل الموافق للبحر الطويل وتفاعيله "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن" في كل شطر، وقد نالت ملحمة ابن سليم الكثير من الحفاوة والاهتمام في حضرموت، والتي مازال الكثير من أهالي تريم يذكرها ويحفظها أو يحفظ شيئاً منها، وهو ما حصل لملحمة العوني التي لقيت نفس الاهتمام في نجد ومازال الكثير من أهالي القصيم يحفظها أو يحفظ شيئاً منها، كما أن كلا الشاعرين الذين عاصرا بعضهما – وإن كان ابن سليم أكبر سنّا بكثير من العوني - ينتميان لمنطقتين قريبتين في تكوينهما الجغرافي، بل وتتقاربان في لهجتهما وهما اللهجة الحضرمية واللهجة النجدية، وكلتاهما قصدتا بعضاً من كل تلك المنطقتين، فربيّع بن سليم عنى بملحمته منطقة تريم التي ينتمي إليها، ومحمد العوني عنى بملحمته منطقة القصيم التي ينتمي إليها كذلك، كما أن كلاهما –رحمهما الله - قالا الملحمتين في غربتهما الاضطراريّة بعيداً عن أرض الوطن. محمد العوني وشاعرنا ربيّع بن سليم من عائلة "بادييخ" ولد في مدينة تريم بحضرموت ونشأ بها من أسرة بسيطة تعمل في الدلالة، ويعد من كبار الشعراء الشعبيين الحضارمة، ومن الشعراء الكبار الذين عاصروا الشاعر المعلم سعيد بن عبدالحق –رحمه الله- وترجم له وهو الذي أرسل له ابن سليم القصيدة، كما ترجم له المستشرق الإنجليزي روبرت سرجنت في كتابه "نثر وشعر من حضرموت" ، وترجم له المؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف (1915-1988م) –رحمه الله- في كتابه "المعلّم عبدالحق" ، وكذلك ترجم له في كتاب "مختارات من الشعر الشعبي الحضرمي" وكتاب "مختارات من الشعر الحضرمي " وغيرها من الكتب ، أما شاعرنا محمد العبدالله العوني فقد ولد ونشأ في الربيعية من ضواحي بريدة بالقصيم (1836-1922م) من أسرة بسيطة كذلك تعمل في البناء ، وهو أشهر شاعر شعبي في الحماسة ، وقد ترجم له فهد المارك ومحمد سعيد كمال وسليمان النقيدان وعبدالله بن خميس –رحمهم الله - وغيرهم ، وله أكثر من ديوان مطبوع وهو ما لم يحصل لابن سليم حيث يوجد له ديوان مخطوط نادر لم يطبع ، ولم يحفظ له سوى ملحمته وعدد من الأبيات المتناقلة شفهياً. ابن خميس ولكلا الشاعرين طرفتين يتداولهما الناس تتشابهان من حيث النوع والاغتراب والعلاقات الاجتماعية، فأثناء غربة ابن سليم في سنغافورة التي له فيها معارف ومنهم شاعر حضرمي آخر هو سعيد علي باجراده –رحمه الله- حيث توطدت بينهما أواصر الصداقة في سنغافورة، دفعت الضائقة المالية بابن سليم أن يستدين بعض المال من أحد الصينيين هناك، لكنه عجز عن وفاء دينه، فأقام الصيني عليه الدعوى وحكمت المحكمة عليه بالسجن، وكان يعيش في سنغافورة عدد كبير من السادة الأغنياء، وقد استنجد باجرادة بهم وحثهم على تسديد دين صديقه إلا أنهم رفضوا، ولم يكن أمامه إلا اللجوء إلى الحيلة لإقناع هؤلاء السادة بضرورة زيارة ابن سليم للتخفيف عن مصابه لأنه ابن البلد ويستحق الزيارة، وعندما ضمهم المجلس مع الشاعرين أنشد باجراده قائلا: قد قلت لك يا ربيّع لا تقس واليوم حبلى وبانت بها شواء فرد عليه ابن سليم ملمّحاً إلى السادة: عسى الولاده تقع في يوم زين والكوبره ما تقصر في الدواء محمد كمال أما العوني فيتناقل الناس له طرفة مالية أخرى، فقد زار العوني الكويت التي له بها معارف كذلك وهو في الثامنة عشرة من عمره، وسكن لدى اثنين من أخواله يملكان دكاناً هناك، فعمل مساعداً لهما، وذات يوم اضطر خالاه للسفر إلى الهند في تجارة، وتركا الدكان بإدارة العوني، وعندما عادا وجدا الدكان خالياً من البضاعة والنقود، وإذ بالعوني يقدم لهما كشفاً غزلياً بالحساب على هذا النحو: "عند المليحة كذا، وعند القصيرة كذا، وعند المدحدحة كذا ، وعند اللعوب كذا، وعند الضحوك كذا، وعند أم برقع كذا" وهكذا ضاعت البضاعة بسبب ضعف الشاعر أمام النساء، وفشل مشروع العوني في أن يكون تاجراً ناجحاً مثلما فشل ابن سليم، ولكن كلاهما نجح في مشروعه الأدبي. بامطرف أما عن مناسبتي الملحمتين "بروق الظفر" و "الخلوج" فهما مناسبتان متماثلتان في أحداثهما من حيث الحكم السياسي لكلٍ من تريم والقصيم. فمناسبة "بروق الظفر" كانت أن حُكْم اليافعيون -من غرب اليمن- لتريم -بحضرموت في الشرق المحاذية لعمان- فيه الجور والاستبداد والبطش والصراع وعم النهب والسلب والخوف والتنكيل بالناس في تريم، حتى وصلت الحالة إلى اسوأ ما وصلت اليه من حد في الجور، وكتب السادة إلى واحد من آل عمر بن جعفر من سلاطين آل كثير في حضرموت اسمه عبود بن سالم - وكان مهاجر في الهند - طالبين منه أن يأتي حيث سيتلقى الدعم منهم ومن قبائل تريم ضد يافع ، وأن يتم إرجاعه إلى سلطنة أهله وأن يكون سلطاناً على تريم، فوافق عبود بن سالم الكثيري، وحصل على الدعم والرجال والسلاح وزحف على تريم وحاصرها سنة 1847م – أي وعمر العوني 10 سنوات - حيث دارت فيها معركة شديدة وانهزمت يافع وأنسحبت ذليلة منها وسقطت تريم "الغنّاء" بيد آل كثير ، فأرسل هذه الملحمة التي تزيد على السبعين بيت إلى صديقه المعلم سعيد بن عبدالحق في حضرموت، يستفسره فيها عمّا جرى بمدينة تريم بين يافع التي كانت لهم السيطرة عليها ودولة آل كثير. إذن فقد نظمت الملحمة بمناسبة هزيمة اليافعيين الذين كانوا يدعمهم السلطان القعيطي –وهو من يافع- وانتصار الكثيري عليهم ، وقد لقيت أصداءً حيث لقيت جواباً من باجراده ، ومن شاعر آخر توفي قبل سنوات هو خميس سالم الكندي، إلا أن كلتا القصيدتين لاتجاريان قصيدة ابن سليم في الإجادة، والتي قالها في جاوا حال وصول الأخبار بأحداث تريم ، نقتبس منها: بروق الظفر والنصر في الأفق نمنمت وثجّت على "الغنا" خواصب مزونها ورعد الهنا قاصف يزوع الشوامخ وزلزل ديار الظلم واهدم حصونها وسالت سيولٍ هايلة تملي الفضا محت أثرة الظلمة وخابت ظنونها! وصارت ديار الظلم عبرة لمن يرى كأن لم يكن فيها عرب يسكنونها! خلت خاويه تبكي على من سكن بها ويستوحش الفض الغضب من سكونها وظل غراب البين ينعى على اهلها وباتت طيور البوم تندب بنونها تبكي تعزّي كل من مرّ نحوها ويخشع ويرثى كل من شاف هونها فلو طفت في تلك المنازل ودورها وشفت البناء العالي ومحكم زبونها لأرتعدت منك الفرايص واظلمت عليك الدنا مما ترى من حزونها! وتنطق بقولة وآي مما جرى بها كما من تمنى في أوائل قرونها رمتهم سهام الدهر رشقٍ فأصبحت منازلهم الغرّ العدى يقسمونها تشتّت نظام اليافعي بعد ما أنقضت لياليه وأفتكت غلايق رهونها فآهٍ على تلك الحصون التي اعتلت وأغلابها دون الثريا ترونها وآهٍ على تلك المصانع وحكمها فما تحسب إن الدهر قط ان يخونها! وآهٍ على تلك الديار التي ابتنت ومن كل جانب غلمة يحرسونها فما يقبل العقل إن أمرٍ يصيبها ولا ظننا إن العدى يملكونها وفيها الرجال الصابرين على البلا إذا ما انطفت نار الفتن يرشنونها! فما لي أرى الموزع خرب أصل ساسه واجتثت الشجرة ويبست غصونها ولكنهم بالظلم والجور والهوى رموا في مهاويها ولم يحذرونها ولما عتوا واستعظموا رفع شانهم وهلكوا رعاياهم ولم يرحمونها أتتهم مصايب شتتت جمع شملهم جزا ذلك الأفعال ذي يفعلونها أما مناسبة "الخلوج" فهي التي بسببها جعلت تجّاراً من أهالي بريدة يطلق عليهم لقب "العقيلات" يتركون تجارتهم وبيعهم في أسواق الشام ومصر والأردن والعراق والكويت ويتجهون لمدينتهم بريدة لتخليصها وبالفعل تحقق لهم مايريدون ، إذ دعا من خلالها أبناء القصيم القاطنين خارجها بملحمته التي استوحى فكرتها من "الخلوج" وهو صوت ناقة مات ولدها في قصر المغفور له الشيخ مبارك الصباح حين كان لاجئاً عنده ، ولما سمع صوت الناقة استوحى فكرة قصيدته تلك وبعث بها إلى أهل القصيم في تلك المواطن، فما كان منهم إلاّ أن قاموا بتصفية تجارتهم وتوجهوا الي القصيم بعد سماعهم للملحمة ، وقد تغنى بها المطرب الكويتي عبدالله الفضالة في عزف منفرد على الربابة، حيث تورد حوادث التاريخ أن "الخلوج" أثمرت معركة "البكيرية" عام 1904م – أي بعد أحداث تريم ب 55 عام - . وفي ذلك يذكر أن أهل القصيم أثاروا حمية العوني ليكتب قصيدة يحث فيها "العقيلات"، فقال: "أنا جاهز، ولكن من منكم على استعداد لحمل هذه القصيدة ، والطواف بها بين العقيلات؟"، فتكفل أحدهم بذلك ، نقتبس منها : خلوج تجذّ القلب باتلا عوالها تكسّر بعبراتِ تحطم سلالها تهيض مفجوع الضميّر بحسّها إلى طوّحت صوته تزايد هجالها قد قلت له: ياناق كفّي عن البكا لاتبحثين النفس عن ماجرى لها؟ أبكي على دارٍ ربينا بربعها معلومها خشم الرعن عن شمالها وصفه من الخفرات بيضا عفيفة يفوق كل البيض باهر جمالها حسودها يغضي الى مرّ حولها من خوف عيالٍ تربّوا بجالها هي أمنا واحلوا مطعوم درّها غذتنا وربتنا وحنا عيالها برورٍ بنا مامثلها بكرم الضنى وصولٍ لنا لكن نسينا وصالها تلقي علينا الجوخ والشال فوقنا وهي عارية تبكي ولا احدٍ بكى لها ولا احدٍ جزع من صيحته يوم سلبت ولا احدٍ نشد من بعد ذا: وش جرى لها؟ قلت: آه واويلاه ياخيبة الرجا كيف أمنا تهضم وحنا قبالها؟ ياطارشي من فوق سراقة الوطا هميمة إلى سارت ذعرها ظلالها فوقف بسوق العصر ياتيك غلمة تخشع بزينات البرسيم فعالها يقولون لك: ياصاح عطنا علومك وبلدان نجدٍ عقبنا وش جرى لها؟! فقل كل بلدان القصيم وغيرها كل دار رمت دون جاله رجالها غير أمكم من بعدكم تندب الثرى تبكي على الماضين واعزتا لها! لعبوا بها الأجناب لارحم حيّكم والبيض بالبلدان شتت شمالها وشيّابكم تضرب على غير موجب من عقب كبر الجاه تجذب سبالها! أولاد علي اليوم ذا وقت نفعكم لارحم ابو نفس تتاجر بمالها! أولاد علي اليوم ماهو بباكر تقدموا بعزم الليث خلوا رزالها وذي قالت ماينطحه كود نادر أولاد علي من هو بكم قال: أنا .. لها؟!