شخصية الشاعر الكبير المشهور محمد العوني رحمة الله مثيرة للجدل والنقاش في كل شيء من حياته في اطوارها ومراحلها شخصية يقف امامها كل شخص قارئاً ومتأملاًً في هذه الشخصية الغربية العجيبة المملوءة بالمتناقضات احياناً وبالغموض احياناً اخرى لكن الناس جميعاً الذين قرؤوا سيرته يجمعون على انه ذو قدرة فائقة في لفت الانتباه اليه بصورة مغناطيسية، وانه يمتلك سحراً في البيان والتأثير في شعره الذي يبثه في الناس هذه الشخصية التي اوقفت الرواية والأديب المتفنن فهد المارك، رحمه الله، في ان يدرس شخصية العوني ويحلل نفسيته من خلال شعره والروايات الشفهية عمن شاهد وراى وعاصر العوني في المخطوط (تاريخ جيل في حياة رجل)، لقد حشد المارك كل امكاناته وطاقاته الأدبية والروائية وعلاقاته في التوصل الى تكامل صورة العوني وعقليته ومدى تفكيره في الحياة، وقد استطاع المارك بل انه الوحيد فيما اعتقد في الجزيرة العربية كلها من يعرف العوني، وكأنه ظله الذي لا يفارقه متتبعا جميع خطواته كلها التي امتدت ستة عقود من الزمن، فكان هذا الكتاب النفيس عن حياة العوني أول دراسة كاملة ووحيدة عن شاعر من شعراء الشعر الشعبي، بل هي احسن واوفى وأدق دراسة قرأتها في حياتي عن شاعر من شعراء النبط وهي تاج على رأس فهد المارك وما أكثر ما اسدى المارك لقرائنا من كنوز وكذلك لوطنه الذي ضحى بكل شيء لأجل وطنه بلده استسهل الصعاب وركب الأسنة حباً لقيادته وشعبه هذه الدراسة المهمة التي سالت بها براعة المارك رسم لها عنواناً عميقاً وراسخاً وليس عنواناً أجوف وتافها انه تاريخ جيل في حياة رجل وهذا العنوان الفريد الذي صنعه المارك لشخصية العوني لم يأت من فراغ، بل بعد عصارة فكر طويل لتجربة العوني خلال حياته، فهو يمثل حقبة تعرض اهم تاريخ الجزيرة العربية في عصرها الحديث واعتقد جازماً انه المارك استطاع بعبقريته ومواهبه الفكرية ان يفهم العوني ولو لم يفهم العوني لما استطاع ان يخترع هذه الدراسة، ولو كان هناك براءة اختراع للدراسات الأدبية والفكرية لكان المارك بهذه الدراسة المجيدة من اوائل من يستحقها في عصرنا الحاضر. فهد المارك أول دراسة متكاملة عن شاعر شعبي في الجزيرة العربية في هذا السفر الخالد استخدم المارك كل ادواته الفكرية ولم يبخل بأي وسيلة يملكها في التحليل المنطقي والفلسفي والنفسي وبحسب تجربته الحياتية في ان يحل اللغز الكامن او الألغاز التي في شخصية العوني، اضافة الى حدس المارك الفطري والمكتسب في معرفة ومخبار الرجال، اعتمادا على شعره والروايات الشفهية جهزة فهذه الدراسة المخطوطة ليست ادبية فقط بل هي تاريخية تتعلق بتاريخ بلادنا، فالذي يقرأ هذه المخطوطة سيجد المارك يتكلم عن التاريخ والأدب الشعبي وقد حدد هذه الحقبة استاذنا المؤرخ فهد المارك من عام 1318ه حتى عام 1340ه. ومن حسن حظ المارك رحمه الله تعالى ان الرواة والأخباريين كانوا بكثرة ابان اعداد سفره هذه والرواة اغلبهم او كلهم كانوا على جانب كبير من الصدقية والدقة والضبط في الرواية فالمارك بدأ بتدوين كتابه في سنة 1373ه ولا أشك ان عند المارك حصيلة جيدة ومعلومات ليست بالقليلة عن العوني قبل هذه التاريخ فالمارك ادرك الكثيرين من الذين شاهدو وعاصروا العوني واخذ عنهم ولعل اشهرهم عبدالكريم المكادي، رحمه الله، الذي طال عمره حتى بلغ المئة وزيادة وبكل جدارة فائقة لدى المارك وقوة حسه كمؤرخ وباحث وليس مجرد ناقل، او حاطب ليل، او جماع اخبار سردي وقصصي وحكواتي مسلي، حقق ودرس المارك كل تفاصيل ودقائق حياة العوني. وقد قسم الأديب المارك دراسته الى عدة فصول وهي سبعة عشر فصلاً افاض في كل فصل بما يناسب ويروي عطش القارئ ونهمه عن العوني مستخدماً فتكئ على النصوص بالدرجة الأولى مستنطقاً هذه النصوص لأنها هي المصدر الأول لسيرة العوني واقوى شاهد ودليل في مسيرته واول قصيدة قالها العوني هي قصيدته وهو في الكويت ولا يزال شابا يافعاً مراهقاً متأسفاً على القافلة التي كانت سوف تتجه الى القصيم وبودة انه كان احد مرافقيها وهي: العبد ماله بالقدر وزن مثقال ما قدر المعبود للعبد ما حيل اسأل جوده عالم السر والغيب غفار زلاتي معيش المراميل يفرج هموم بالحشا تهجل هجال يجعل لنا حظ الكنس الحيل هذا وانا من هجر الايام مهتال مالي نديم يفهم العلم ويخيل وانا على جال البحر تقل بحبال متنثر دمعي سواة الهماليل وبعد هذه الابيات يعتب على خاله التاجر المعروف على ابن دعيج قائلاً: ياخال مهو معجبك سحات الادقال وشوفك بغال الهند مع طقة التيل ويقال ان خاله لما سمع بهذه القصيدة عطف عليه وجهزه مع قافلة الى القصيم وانبهر بهذه القصيدة تخرج من فتى صغير السن وهذه الرواية لم يذكرها المارك وانما ذكرها الطامي في ترجمته للعوني في كتابة الشعبي المختار من الشعر النبطي وكذلك ابراهيم المسلم في كتابة عن العوني. ابحر المارك، رحمه الله، في بحار شعره وحياة العوني وغاص في الاعماق يلتقط جواهر شعر العوني ودرره شارحاً وموضحاً ومتوقفاً ومتأملاً في قوافي العوني وقصة حياته ومغامراته التي لا تنتهي حتى انتقل الى دار البرزخ فليس هو بالشخص العادي بل هو الطموح الى معالي الأمور. ان المارك بدراسته رائد من رواد الأدب الشعبي ولست في هذه القراءة وهذه المخطوطة الفريدة ان استقصي كل ما فيها وانما ما اراه مهماً وجديراً بالقراءة والأمور الجديدة التي أكتشفها المؤرخ المارك في شخصية العوني. تطرق المارك في عنوان اخلاق العوني وان العوني يملك من الصفات والسجايا والأخلاق الفطرية والكريمة منها انه حاد الذكاء سريع الادارك ولكن هناك شي اكتشفه المارك وهو ان العوني ليس شاعراً فقط بل هو موسوعة للأدب الشعبي والتاريخ المحلي للحاضرة والبادية. وان له شروط وقيود وضوابط سنها على المجالس التي يرتادها واذا لم تنفذ هذه الامور فأنه لايقبل الدعوة. فالمجالس التي تشتاق الى حديث العوني تلتزم بشروطه بل بشرطية وهما: أولاً: ان لا يقاطع بحديثه مادام مسترسلاً به. ثانياً: ان لا يأمر رئيس المجلس بطلب القهوة لأي قادم كان مادام انه يواصل حديثه حتى ينتهي منه. ويؤكد المارك هذا قائلاً، أي مجلس يكون فيه العوني لا يستطيع اي أديب او مؤرخ او شاعراً ان يتحدث في ذلك المجلس ما دام العوني موجوداً فيه وذلك ان العوني سيد مجالس يأخذ بلب العقول ولافهام يسحر جالسه بقوة بيانه وتدفق الأحاديث من لسانه كالسيل المنهمر ويود المستمعون انه لا يسكت مطلقاً ومن المؤكد ان العوني يحفظ كل ما يسمع من الرواة وبذلك استحق ان يكون جليس الملوك والأمراء وشيوخ البوادي وكأني اشبه العوني بالمتنبي الذي أشترط حينما يلقي شعره ان يكون جالسا مثل الممدوح وألا لا يلقي قصديته فالعوني يعرف قيمة نفسه عند الناس واصحاب النفوذ يرونه جهازهم الإعلامي المؤثر. ولم يكن المارك وهو الأديب الزواقة الزراقة للنصونص الشعرية الشبيه والناقد الحقيقي ان تكون عاطفته وعشقه للعوني كشاعر فحل ونابغة عبقري تصده عن نقد العوني في تصرفاته وبعضاً من تفكيره وسلوكياته وقد اورد المارك ان ضمن صفاته صفة التحريض يحرض المغلوب على غالبه في ان يأخذ المغلوب حقه مستعملاً شعره في التهييج وبث الحماس في نفسية المغلوب وقد نجح خلال حياته في اتباع هذه المنهج الذي سلكه العوني واعظم دليل قصيدته الخلوج وقصتها معروفة. لكن العوني عفا الله عنه افرط في هذه الصفة فأصبح يحرض على الحق لرأيه احياناً والباطل احياناً اخرى ومن صفات العوني كما ابان المارك التعصب لرأية ولا يمكن ان يتنازل عن رايه مهما كلف الأمر ومن سجايا العوني، رحمه الله، التي اكتشفها المارك عاشق العوني انه لا يبتغي من نشر قصائده التي طابعها المدح والإطراء المال بدليل انه عندما مدح احد الحكام في عصره اعطاه هذه الحاكم مبلغاً ضخماً من المال، وعندما استلم العوني المال فرقه على اناس من اهل القصيم كانوا في اشد الحاجة اليه، وغيرها من الاعطيات والهبات التي كان العوني يوزعها فوراً ولو جمعها لاستطاع ان يكون اكبر اثرياء نجد في عصره.