أكاد اصل إلى درجة اليقين أن الذاكرة الإنسانية تحتفظ بكل شيء يدخل فيها منذ لحظة الوعي الأولى إلى آخر يوم في الحياة. النسيان شيء والفراغ شيء آخر. عندما ننسى الأشياء لا يعني أنها امحت. النسيان والتذكر عمليتان تجريان في الدماغ لا علاقة لهما بمخزون الذاكرة او عملية التخزين. عندما يسألك صديقك تتذكر يا عبدالله عندما دخلنا المحل الفلاني قبل عشر سنوات. قد تتذكر وقد لا تتذكر. في الحالتين المادة التي أشار إليها صاحبك مازالت مخزونة في ذاكرتك. لا أقول هذا الكلام صادرا من تجارب عملية في جامعة أو مركز دراسات ولكن من تجارب شخصية مرت علي وعلى كثير من الأشخاص في محيطي. دخلت قبل عدة اشهر محل ملابس لمحت كنزة رمادية على الفور أخذتني إلى طفولتي عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من العمر. تذكرت أن زميل دراسة كان يلبس كنزة مثلها تماما وتذكرت أيضا أني تمنيت أن أشتري واحدة مثلها وتذكرت أن قبضت على احد ازرتها وقلبته بين يدي. تذكرت حتى تفاصيل عاطفتي واعجابي بها. كانت علاقتي بكنزة صاحبي علاقة اعجاب عابرة, لم تستحوذ علي طويلا. كانت حادثة صغيرة مع ذلك عادت بعد كل هذه السنين بكامل وضوحها وبما صاحبها من عواطف. كما تلاحظ تذكرت هذه الحادثة بمحرض لكن أحيانا يتذكر المرء أشياء بشكل فجائي لا يحتاج إلى علاقة سببية لاستدعاء الذاكرة. استلقي أحيانا فتطوف بي ذكريات صغيرة متبعثرة. مرة كانت اجلس وحدي فجأت قفزت إلى ذاكرتي صورة اكرة باب بيتنا القديم بكامل الصدأ الذي كان يعلوها والتثلمات الصغيرة على محيطها كأنها امامي أو كأني اشاهدها في صورة فوتوغرافية صافية. ثمة امثلة كثيرة تمر علينا جميعا. لا اسرد هذا الكلام لأنكم تجهلونه ولكن لأقول ان مستقبل الإنسان في ذاكرته. التكنولوجيا الحديثة قدمت للبشرية أجهزة تعوض عن الذاكرة. المسجل والهارد دسك والاسطوانات الممغنطة وغيرها. هذه الأجهزة هي في الواقع تطوير كبير للكتاب. اضافت حواس أخرى ومواد أخرى ولكنها ليست اختراقا. اكتشاف الكهرباء مثلا اختراق في حياة الإنسان. نقلت الحياة من مرحلة بشرية إلى مرحلة بشرية أخرى. التلفون الطائرة الخ.. وأخيرا الإنترنت. أظن والله اعلم نحن في انتظار اختراقين الأول اكتشاف الفضاء السحيق بصورة حقيقية لا نظرية. والثاني اكتشاف لغز عمل الذاكرة والتحكم في استدعائها. الذاكرة ليست مجرد مستودع معلومات ولكنها سر الذكاء الإنساني ومادة عمله. عندما تستطيع أن تتذكر أي حادثة مهما صغرت ومهما بعدت وقت تشاء ستتحول إلى سوبرمان. ما بالك إذا تحولت البشرية إلى سوبرمان. قرأت منذ مدة بعيدة رواية خيال علمي. ان حطت سفينة فضاء على كوكب. فبدأ الكوكب يتحكم في عواطف ركاب السفينة ويتدخل في تفكيرهم. يكتشف ركاب السفينة أنهم وقعوا على كوكب عظيم اندمج أهله في بعضهم بعد أن تلاشت أجسادهم وتضخمت عقولهم. اصبحوا في النهاية عقلا واحدا يغطي الكوكب بأسره بدون أجساد على الاطلاق. لا أعلم كيف سيصبح الإنسان عندما يصبح شخصا واحدا. لا استطيع الإفصاح عما يجول في خيالي سأترك لكل واحد أن يتخيل بالطريقة التي يقوده إليها خياله وايماناته.