روى المسرحي اللبناني روجيه عساف أنه مر بحياته على مرحلتين أولاهما كانت حياة إفرنجية عاش فيها بعيداً عن أي رابطة عربية له، سواء في اللغة أو في الثقافة أو في تصوراته العقلية والروحانية، وسافر إلى فرنسا للعيش هناك استجابة لشروط تلك الحياة المتفرنجة، ولكنه بعد وقت من معاشه هناك أخذ يشعر بفراغ مخيف يكتنف حياته ويوحي إليه بأنه ينتمي إلى شيء هناك في البعيد، هناك في الشرق النائي عن لغته وعن روحه، وظل هذا الشعور يلاحقه حتى عاد إلى لبنان ودخل من جديد إلى لغته العربية وتزوج من سيدة مسلمة وملتزمة دينياً واعتنق هو الدين الإسلامي. كان روجيه عساف يشرح هذا في مقابلة تلفزيونية وتظهر على وجهه علامات المعنى الذي كان يلاحقه، وهو المسرحي الذي تتمثل كل حواسه بأحاسيس شخوصه، وهو لحظتها يقوم بتمثيل دوره الروحاني في هذا الكون، وكيف أن شيئاً تسميه الثقافة ب (الأصل) ظل وراءه حتى تلبسه وصار عينه التي يرى بها الكون ويعينه على فهم نفسه مثلما يحاول تفهم عالمه. ذاك مثال يستدعي قصة الشاعر الانجليزي ت. إس. إليوت، الذي مر بتجربة مماثلة لتجربة عساف، حيث كان إليوت في أمريكا وبين يديه مجد البلاد الجديدة، ولكن شاغلاً روحانياً ظل يشاغله حتى عاد إلى القارة العجوز واسترد أصله البريطاني وعاد مسيحياً مؤمناً ولم يجد في ذلك تعارضاً مع حداثيته الطليعية، وتبنى اللغة الإنجليزية بصيغتها الكلاسيكية كما وصفها في مقال بهذا العنوان. تلك قصص بشرية لما يمكن أن يفعله الأصل بالبشر، وهذا ما يكشف عن كون الأصل ضرورة بشرية، ولذا اخترعته الثقافة وظلت تغذيه في الواقع وفي الخيال. ومن صميم هذه اللعبة الثقافية ما جاء في حكاية النوق المهربة، وهي نوق من أفضل النوق عند أهل الصحراء، وفي قصتها أن رجلاً يمانياً كان في إبله فظهر له فجأة جمل فحل كأنه كوكب بياضاً وحسناً فأقره فيها حتى ضربها وأنتجت نياقاً حساناً لا مثيل لها وتبين لهذا اليماني أن الجمل الفحل كان جنياً، وهذا ما يفسر عندهم تميز هذه النوق وتفردها بسبب أصلها الخرافي، كما يروي ياقوت الحموي في معجم البلدان. وكثير من قصص الأصول الأولى للبشر هي مثل هذا الذي تخيله اليماني عن نوقه أي أنها كلها ضرب من الوهم المبتكر في سبيل صناعة أصول تملك سيمات التميز والتفاضل المطلق والمعالي على المنطق والواقع، والثقافة هنا تخترع وتدفع للتصديق. ولا شك أن لدى الإنسان إحساساً اضطرارياً في تأصيل كل مظهر من مظاهر حياته، حتى إنك لتجد في عالم الفكر والنظريات شعوراً خفياً يسير باتجاه تأصيل المقولات الجديدة ونسبتها إلى جذر قديم، وهو عمل دافعه الرغبة في تبني الجديد وتسهيل أمر القبول له، ويحدث هذا في الغرب مثل نبشهم لذاكرة فيكو من القرن السادس عشر ليكون الأب الفكري للبنيوية، وصار عندنا عمل مماثل في نبش كتب الجرجاني لاستنطاقها بمقولات نظرية حديثة من البنيوية حتى السيميولوجية. في رحلة الثقافة الكونية جرى اختراع الأصول مع استمرار تسميتها بمسميات متعددة، وتم ذلك في تلامس تام مع اختراع الأوطان واختراع الحدود، وهذه المفاهيم الثلاثة: الأصل، الوطن، الحدود، هي التي أفضت إلى خلق أنواع من التمايز، فالحد ليس نقطة فاصلة بين شيئين فحسب، وإنما هو قيمة تصورية في تمييز شيء عن شيء، والأرض إذا ما قسمت إلى أقسام وتم وضع معالم فرز بين الأطراف فإن كل طرف سيكون مجالاً لنشوء فئة بشرية تملك لغتها الخاصة وشعارها الخاص واقتصادها الخاص ومن ثم سياستها الخاصة، ويخلق من هذه الخصوصية نوعا من التفرد يتحول إلى تميز مفترض. هذا للأوطان، أما من داخل هذه التكوينات الوطنية فإن حدوداً أخرى تنشأ عند الأفراد تبدأ من كون البيت نفسه وطناً - كم جرى في قصيدة ابن الرومي: ولي وطن آليت ألا أبيعه.. الخ، وهو يحكي عن منزله، حيث سمي المنزل وطناً - وكون البيت وطناً يعني أنه ذو حدود وذو خصوصية وله قيمة رمزية خاصة به، وتنشأ في داخله عائلة بحدودها المقننة، ومن ثم تميزها بسمات هي عندها بمثابة الانتماء، كما انتمى ابن الرومي إلى منزله (وطنه)، وهذا يفضي إلى معنى جذري وذاتي هو الأصل أو (الأصول) بما أنها قيم ذاتية وهي حصانة تربوية وسلوكية أولاً ثم تصير قيمة تمييزية بعد ذلك تبعاً لشروطها الثقافية وضرورات التبويب الاجتماعي. هي الأصول - إذن - التي هي مخترع ثقافي تحول ليكون ضرورة ثقافية واجتماعية، وبما أنها ضرورة ثقافية على مستوى الواقع وعلى مستوى الخيال فهي لذلك قيمة عامة يتساوى فيها البشر - كل البشر - دون تمييز، وسنرى حينئذ إن لا وجود لبشر بلا أصول، وهذه سمة ثقافية كونية، لدرجة أن محاولات التمرد عليها والتخلي عنها تنتهي إلى عودة إليها، لقد عاد روجيه عساف وأمين معلوف إلى أصولهما مثلما تعود الأمم إلى أصولها الجذرية وقت الأزمات الكبرى، أو في التمثلات الأدبية الفنية والمعرفية مثل عودة الثقافة الغربية كلها إلى الأصل الإغريقي في الفكر وفي المصطلحات وفي الممارسات الرياضية، حيث الألعاب والأولومبية وحيث مصطلح الديمقراطية مثله مثل الفلسفة والصيغ الثقافية. إذا قلنا هذا بما أنه معنى ثقافي عام وصل إلى حد الضرورة فإننا سنلاحظ تبعاً لذلك أن (القبيلة) هي بالضرورة التحليلية ليست سوى مرادف دلالي للأصول، وستكون القبيلة مثل الشعب ومثل العائلة ومثل الوطن ومثل الحارة ومثل الجمعية والجماعة، وكل ذلك مترادفات ينضوي تحت مظلة كل واحد منها فئة بشرية لها حدود ولها مسمى ولها منظومة افتراضية تقوم على متصور مصاحب للمسمى. وفي الثقافات كلها تجد أن السمات والحدود والخصائص تتحول مع التوارث إلى نوع من التمايز حتى لتشعر الفئة بأن ما تملكه من سمات هو خاصية ترفع بها عن غيرهم الذين لا يملكون الخاصية نفسها، وهذا حادث في الجنس الأوروبي الذي يرى تميزاً عرقياً للآريين في عقلياتهم وفي ثقافاتهم يتفوقون به على من سواهم من الأجناس، ويشمل ذلك اللون واللغة وكل مظاهر الثقافة، وهذه قصة تتكرر عند غيرهم، فما من فئة إلا وترى أن لها تميزاً على غيرها جراء اختلافها عنهم في بعض عناصر مكوناتهم اللغوية أو الثقافية أو العرقية أو الدينية، ولو نظرنا في أدبيات الهوسا مثلاً في افريقيا فسنرى أن هذه القبيلة هي من حيث الحجم أكبر قبيلة في الكون عدداً وعدة ثم إنها ترى نفسها أعلى وأرقى من غيره من البشر، كما يقول ذلك الياباني عن نفسه والهندي عن ثقافته ونحن عن أنفسنا، وهنا سيحق لك أن تسأل: من الصادق ومن الواهم، ومن سيصدق من... وهلم جرا. هي نزعة ثقافية كونية تمنح أهلها عقيدة في التميز، وكل يقول هذا عن نفسه، وإذا رأيت الكل يقول ما يقوله الكل الآخر فأنت لن تجد بداً من الحكم على الجميع بأن ما لديهم هو هم كوني بما أنه مخترع ثقافي تحول مع الزمن إلى ضرورة ثقافية بأن يمتلك الكائن الثقافي شيئاً أو أشياء يسميها بالأصول، ويرى أنها تخصه دون سواه، وهي في الحقيقة سمات مشتركة ونوازع بشرية كلية، وليس لأحد تفرد مطلق في أي منها سوى أنها صناعة نسقية تغري وتريح وترفع ولو على مستوى الوهم. هذا نسق ثقافي كلي وأزلي، ولن يصعب علينا تصور العلاقة الأولى بين كلمتي نسب وحسب، حيث يأتي معنى كلمة (حسب) على أنه: ما يحسب ويعد من مفاخر الآباء (الزمخشري: أساس البلاغة)، وفي هذا تحويل دلالي عبر لعبة اللغة، حيث يجري تغيير طفيف في صياغة الكلمة بين النون من (نسب) والحاء من (حسب) ويجري الربط العضوي ما بين الصوتين نطقاً وكتابة، ومن كان لأهله ونسبه أفاعيل عظيمة فإن هذا سيكون سجلاً ذهنياً يخلق حالة من التميز مع مرور الزمن ومداومة تذكر بطولات الأجداد حتى لتتفوق الذاكرة على إيقاعات الماضي لتكون حسباً يضاف إلى النسب ثم يأتي مفهوم القبيلة ومفهوم العائلة ومفهوم العرق، وسيجري الافتراض بأن هذه بمثابة المزايا الطبيعية، ويتم الربط العضوي بين النسب والحسب، وفي المقابل يتم نسيان الأصل البشري الواحد الذي يجمع البشر كلهم في نسب واحد غير متميز ولا مفروز من ناحية طبيعية أو إنسانية. وإن كان الأصل الواحد للبشرية معلوماً بالاتفاق العلمي والتاريخي، إلا أن هذا المعلوم الأكيد سيتم نسيانه لأن شرط التميز القائم على الفرز العرقي بناء على فكرة النسب سوف يلغي الذاكرة الأصلية ليضع موضعها ذاكرة جديدة تمنح التميز، حتى وإن كانت هذه الذاكرة صنيعة ثقافية بينما الأصل للذاكرة الطبيعية أنها لا تسمح بأي تمييز بسبب النسب، لأن النسب بكل بساطة هو ذو أصل واحد وغير متمايز. وإن رحلة الإنسانية لهي رحلة واحدة كلية بدأت من التشتت الفردي وتبعها اختراع العائلة لضرورات ثم القبيلة ومن بعدها جاء الشعب وجاء مفهوم الأمة ثم الوطن، وهي مراحل تدرجت فيها الإنسانية حسب شروط الظروف وخصائص التحولات، وفي أوروبا كانت التحولات واضحة ومحسومة الحدود من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الطبقات ثم المجتمع الصناعي وانتهاء بالدولة الديمقراطية والوطن الذي تديره دولة مسؤولة عن كل الفئات والأفراد ومتكونة من هذه الفئات والأفراد ذاتهم في تبادل واضح التحرك بين كافة مكونات المجتمع، حيث يأخذ قانون التنافس والكفاءة وتساوي الفرص حقه وتقوم الإدارة والقوانين كحماية مفترضة لذلك، ومهما صار من خروقات فإنها تظل على مستوى العلن ويجري التعامل معها إعلامياً ودستورياً بدرجات قد تتفاوت وقد تخترق، ولكنها لا تلغي ما هو نظام عام وصورة معلنة وما هو مفهوم ثقافي متفق عليه. وهذه صورة ثقافية كونية واضحة المعالم في الحضارة الأوروبية وأمريكا ولكن أمماً أخرى - ونحن منهم - ما زالت التصنيفات الثقافية في حال من الاختلاط ما بين الفردية الفطرية الأولى مضافاً إليها التكوينات الجذرية من طائفة ومذهب وفئة وقبيلة، وهي قيم أصلية تختلط مع مفاهيم الشعب والوطن والأمة، وكل هذا المزيج موجود في حال من التداخل الدائم، فالفرد منا مواطن وواحد من شعب وفيه عناصر من مكونات الأمة، وفي الوقت ذاته هو عائلي النزعة وقبائلي الهوى وفئوي الضمير وفيه منزع طائفي ومذهبي، ومن ليس له قبيلة فإن له عائلة لا تختلف عن القبيلة في معانيها سواء الايجابي أو السلبي، وهذا من هذا سواء بسواء، ولن يتميز أحد عن أحد لا في المعنى الجذري ولا في المنزع الوجداني، والسمة الكلية في ذلك كله هي أن الخليط الثقافي يشكل مزيجاً متناقضاً سببه أن المفاهيم لم تأخذ حقها الكامل ولذا لا يتحقق التحول التام من ثقافة الفئة والقبيلة إلى ثقافة الوطن والوطنية، وبما أن هذا التحول قد تحقق وحسم في أوروبا لأن الدولة قد حققت منجزها الوطني حتى صار الفرد تحت مظلة رعايتها التامة من حيث الحقوق والواجبات بوضوح دستوري تام، ولذا تحقق عندهم التحول التام. وعلى المقابل فإنه من الواضح أن عدم حصول تحول تام مماثل عندنا يعني بالضرورة والمقارنة عدم تحقق المواطنة، وأن عدم تمثل النظام الكلي في العلاقات والمسؤوليات هو ما ترك المجال لاختلاط التناقضات وبقاء التكوينات في حال تجاور وفي حال تربص دائم يقبل الاستدعاء في أي وقت، ومهما حصل من خروق في أوروبا فإنها تتم بما إنها لحن في الخطاب، بينما الخروق عندنا صارت وكأنما هي النمط المسيطر، وهذا ما يخلق صوراً غير منقطعة من العودات المستمرة للأصول الجذرية في الطائفية والمذهبية والقبائلية في صيغة لجوء وجداني لمواجهة التهديدات. ولذا فإن نضوج فكرة التحول الاجتماعي هي ما يمكن أن يحقق دولة المؤسسات وينظم علاقة الفرد مع بيئته ومع صورة وجوده الكوني، وعدم ذلك هو ما يترك حالة الاختلاط المفاهيمي في المجتمع بين الفئوية بكل صيغها وبين المواطنة الهشة التي لا تقوى على صد التقاطعات لعدم تحقق معناها بشروطه الضرورية التي وصلت إليها أوروبا بتداول دستوري أنضجته التجارب والتطورات الطبيعية ثقافياً وفلسفياً ومن ثم سياسياً.