لم يحدث أبدا أن تعلمنا كيف ننسى ، كما نتعلم كيف نحب ، ولم يحدث أن خصصنا للنسيان رجل كنا قد أحببناه بأمطار روحنا عيدا يأتي في كل عام ننفض الذاكرة خلف ماضٍ كان فيه للقلب حكاية وجع ، كما نخصص للحب عيدا " للعشاق " ، لم يحدث أن يأتي النسيان أسود بزهرة الصبار ، يمارس طيشا جديداً لنساء ينشرن حكاية حب لم يكن جديرا بأن يتوج بقرار " وفاء " ، يخلع عنا توقاً وحباً ينام معنا ، ويستيقظ معنا ، ويشرب من ذائقة الحب التي بداخلنا ، وينسى أن لاينسى معنا ، يمنحنا كل الأشياء التي تخص الحب والتي تآمر فيها الكون ليوقظها بدمنا ، ويحرضنا بأن نبقى - نحن معشر النساء - أوفياء لذاكرة أبدا لاتنسى ... لاتشبع من تخمة رجل أكثر شيء يحسن فعله بأن يتعافى سريعا من حالة عشق ..يغيب حينما يشتهي ذلك ، ويكسر قلب يعلم جيدا كم هو يحيا به ، ويتفنن في تعذيبه وإسقاطه بعد حالة صعود إلى القمة . ! يهرب متى شاء ويحضر حينما تغيب كل الأمنيات ؟ تقول أحلام مستغانمي في كتابها الشهي نسيان com ( لاأحد يعلمنا كيف نحب ، كيف لانشقى ، كيف ننسى ، كيف نتداوى من إدمان صوت من نحب ، كيف نكسر ساعة الحب ، كيف لانسهر ، كيف لاننتظر ، كيف نقاوم تحرش الأشياء بنا ، كيف نحبط مؤامرة الذكريات .. وصمت الهاتف " بتلك الحكايات لنساء يحاولن أن يتمردن على الحب بالنسيان تسرد " الكاتبة الاستثنائية والجميلة " أحلام مستغانمي " في كتابها " نسيان COM " وصفتها العلاجية لحالة نسيان حب لم يكن جديرا بأن يمنح " الوفاء " ، فمنذ الوهلة الأولى التي يسقط الكتاب بين يديك تشعر بأنك تدخل عالم من التآمر اللذيذ تجاه الرجل ، فالغلاف يقبع في سواد عميق يرمز لسواد الألم الذي يهرس الروح حينما تشقى بعشق يخذلك ، وعلى امتداد ذلك السواد الذي يغرق فيه الكتاب تطفو فوق سطحه " زهرة الصبار " المربوطة بخيط متطاير وكأنه هنا " حالة اقتران بين الصبر المشتق من زهرة الصبار وبين النسيان الذي يتطلب منا الكثير من الصبر في تحمل غياب الحبيب .. وبين حالة الالتباس تلك الشامخة على غلاف الكتاب ختم العنوان بختم أحمر يشبه كثيرا الختم الرسمي لحب النساء كتب عليه " يحضر بيعه للرجال " وكأنها محاولة جادة لأن يخرج الرجال من عالم النساء ليس بضربة " نسيان " فقط بل بضربة " إضراب عامة " تشتهي أن يخلو قلب أي امرأة من سطوتهم الكبيرة . مع ملاحظة في أسفل الغلاف بمرافقة سيدي لجاهدة وهبة تغني للنسيان وكأن في الأغاني - أيضا - مايحرض على خوض النسيان . أحبيه كمالم تحب امرأة .. وأنسيه كما ينسى الرجال تجد " مستغانمي " نفسها أمام تقديمها هذا الكتاب الأمانة الأدبية في التبليغ عن وصفه للنسيان وهي التي اعتادت في ثلاثيتها الروائية المبهرة " ذاكرة الجسد ، وفوضى الحواس ، وعابر سرير " أن تمنح المرأة شعار العشق الذي يقول ( لاحياة دون أن تخوضي حالة حب في الوجود ) لكنها في هذا الكتاب تشعر بشيء من الاعتذار لكل من آمن بهبل العشق الذي كانت تقدمه في رواياتها ثم خذلوا ، وانتحر العشق بداخلهم على صخرة الواقع ، فتبدأ في التكفير عن ماأسمته " بمسؤوليتها " تجاه النساء بسرد الوسائل الكفيلة بهدم عالم شامخ بداخل الروح اسمه الحب لرجل لايشبع من لعبة النسيان . ويأتي التحريض لديها للكتابة عن النسيان بحكاية صديقتها التي أسمتها " بكميليا " والتي تعيش حالة خذلان وهجر وفراق وانسحاب من حبيب غادر ولم يذكر لها أسباب مغادرته ومسببات غيابه ، فتحاول أن تتضافر معها لتنجح في حالة النسيان التي لابد أن تلتزم بمعاهدتها بالتغلب على كل شيء من شئنه أن يحرض على استحضار ذاكرة " العشق " فتبدأ بنسيان الهاتف والتمرد على الوقت الذي اعتادت فيه صديقتها وهو " التاسعة صباحا " بأن يحادثها فتملئ " الكاتبة " ذلك الوقت بنصائحها لكيف تتجرد المرأة من حب لايشبع من التلاعب بها ، فتطلب منها أن تخلع الحنين للاتصال به بقولها ( إن حبا مفقودا أفضل من حب منقوص .. أخلعي عنك حداد هذا الرجل ) وربما وصفت علاج آخر للتحريض على النسيان بقولها ( لكي تكسبي رجل اخسريه ) وكأن الرجل لايحب إلا المرأة التي تعلن الرغبة في خسارته لتكسب ولائه . وتتوالى الفنون الجميلة التي تسردها " مستغانمي " في كتابها عن " النسيان " بسرد جميع التفاصيل التي تساعدنا على استحضار النسيان وتغييب الذاكرة بوسائل كثيرة تشتهي جميع النساء اللواتي يخضن تجربة " خذلان في الحب " أن تتعرف عليها فتطلب الابتعاد عن سماع الأغنيات العاطفية التي أهديناها لمن نحب ، وتجنب اللجوء العاطفي إلى السرير في حالة الشعور بالحنين لأنه المكان الأخطر من حميميته ، فالقلب هنا يعاني الحدود الأقليمية لجسد يطارد ذاكرة في السرير ... وهي من أجمل المعاني التي وصفتها الكاتبة في استحضار وسيلة هي عكس ذلك تماما ..! ثم محاولة أن يكون للنسيان عطر عوضا عن عطر يوقظ فينا أشواق التوق . وتكاشف المرأة بحقيقة أن النسيان لايأتي إلا حينما نكون جادين - حقا - في خوضه وكسب وده ، فالكثير من النساء يتفوهن بقرار النسيان لكنهن في الداخل يتمنين أن لاينسين : ( كل يوم حين أستيقظ أقول " سأنساك اليوم أيضا " كل يوم منذ أيام لم يحدث أن نسيت أن أنساك ) ولايمكن لأي قارئ أن يتجاهل قدرة " مستغانمي " على تفصيل نفسية الرجل حينما يحب ، فتنطلق في تفسير عميق لحبه للمرأة العنيدة التي لاتصرح له بحبها في حين يمارس الشقاء على من تخلص له وتقدق عليه مطرا في العشق ، وفي رغبته الدائمة في تذوق مختلف أصناف الفواكه من النساء ثم أنها تمرر الرسائل الخاصة للمرأة التي تبقى تلتمس لحبيبها الغائب الأعذار بالتفكير فيما يفعل الآن ، وفي تأويل رسائلها الهاتفية التي أرسلتها له وقوبلت بالتجاهل منه والصمت ، وفي طبيعة الرجل التي جبلت على الخوف من مواجهة عواصف المرأة العاطفية " ( الحب الكبير يخيف رجلا ماعرف قبلك امرأة ، إنه ينسحب ليحمي رجولته من إغداق أنوثتك ، وليتداوى من تلاشيه فيك ، لكنني لاأعرف رجلا شفي من سرطان الروح بتناوله " أسبرين " الكذب على الذات ، لاأحد تعافى من حب كبير تقول التقارير العاطفية ) إن تأكيد الشعور بأن من نحب من الرجال وغدر في حالة عشق فالحكم عليه بالموت في القلب هو خير محكمة للنسيان ( أمام أول رسالة تبعثينها ولا تتلقين عليها جوابا توقفي نهائيا عن المراسلة ، إن الانقطاع التام أخف على العاشق من رسائل يقابلها الصمت ، فالصمت مساحة للتأويلات التي قد تذهب بك في كل الاتجاهات ) وتنسحب الكاتبة في طرق كل التفسيرات وكل الاحتمالات التي من شأنها أن تجهض حالة نسيان ، حتى تصل إلى التأكيد على أن الرجل لايمكن أن يخلص بقدر إخلاصه لنفسه وبمقارنته بالأكثر خسارة في وفاء الفيل لمن يحب من إناث الفيله ، لكنها بعد تلك التجارب التي تسردها لمن أسمتهن " بالغبيات " واللواتي قدمن أنفسهن على مأدبة الحب والتي آخر شيء من اهتمام الرجل ، تعود لتطلق حقيقة في مشاعر النساء بواقعة صديقتها " كميليا " التي بعد أن تعاني الوحدة والفراغ العاطفي والحزن الشديد على حبيب غادر ولم يعود ، تعود بفعل نصائح " مستغانمي " إلى التأنق للحياة فتحضر معها أمسية شعرية في بيروت تنطلق فيها شرارة الذاكرة من جديد لتتفاجئ " مستغانمي " بعد أيام بأن صديقتها التي توعدت بالغضب النسياني بأنها تعود لحبيبها الذي تلتقيه في تلك الأمسية فيشعل اللقاء العشق مجددا في قلب امرأة تقيس درجة حرارة الوفاء عند رجل بمقياس حرارة عواطفها ... فتقرر بأن تلقي خلفها جميع نصائح النسيان تلك التي قدمت لها على مدار أشهر لتعود إلى حبيبها الذي لم تحسن أن تقفل عليه باب الانتظار ذاك .. وتختتم " الكاتبة " كتابها بوثيقة تطلب فيه من جميع النساء أن يوقعن تحتها مصدقين على الالتزام بها كما طلبت من صديقتها " كميليا " قبل سفرها فعل ذلك ... وبشيء من الأسلوب الفكاهي التي تكتب فيه " مستغانمي " كتابها هذا وهو الأسلوب الجديد الذي لم نتعوده منها في رواياتها السابقة تختتم كتابها " بحقيقة أن النساء يجهضن مشاريعهن بالنسيان مع أول حضور للرجل الذي يحببنه " ولتضع أحلام أسئلة هامة وكونية عميقة عن " النسيان " والتي ربما لم نستطع حتى مع تجارب الحب التي نخوضها أن نتعرف على حقيقتها : لماذا يبدو النسيان أمرا صعب حدوثه ؟ وهل يحتاج أن نتمرس على النسيان لكي نستطيع أن نتجاوز محنة العشق ؟ ومن ينتصر في حروب الحب .. الذاكرة أم النسيان ؟ ولماذا يرفض الإنسان في أعماقه أن ينسى حتى إن كان مايتذكره يؤلمه ؟ وهل يصلح النسيان أن يعالج ماخلفته شراسة الحب بداخلنا بذلك القدر من الوجع والخيبات والدموع والجرح ؟ ومن يستطيع منا أن يمسك بطائر النسيان الذي ينقر في كل يوم ذاكرتنا بماضي في الحب لايغيب ؟ مالذي أرادته " أحلام مستغانمي " بهذا الكتاب الذي ربطة اسمه بالتقنية ( نسيان COM ) وكأنها تحرض جيل الإنترنت بأن يحب أن ينسى بذريعة التقنية التي يحب اختراقها ليخترق قرار النسيان ؟ وهل جربت " الكاتبة " هنا أن تنسى كما طلبت من صديقاتها العاشقات أن ينسين ؟ هل تخفي خلف كتابتها الرشيقة وفلسفتها العميقة " حب قديم " أيضا تصر على أن تشفى منه بالنسيان ؟ ( في أي مكان كان يقيم فيك هذا الرجل بالضبط إلى الآن .... كل مافيك يبكيه ويحقد عليه ، يبكيك ويتمرد عليك ، وأنت الخصم والحكم ، والقرار والألم ، وعليك أن تحسمي أمرك بحزم ... هل تريدين النسيان حقا ؟؟ ) ( فمالعبودية سوى وضع نفسك بملء إرادتك في حالة انتظار دائم لرجل ماهو إلا عبد لالتزامات وواجبات ليس الحب دائما ضمن أولوياتها ) . فهل حقا ... نستطيع أن ننسى ؟!