الأقرب عندي أن المهدي، إن خرج، سيخوض حروباً مديدة، قبل أن يملك شبراً واحداً من الأرض، وسيجد العالم كله يتآمر عليه كما تآمرت القبائل في الأحزاب على نبينا - عليه الصلاة والسلام -؛ فالعالم كله، تبعاً لأحاديث المهدي، قد أُشرب ثقافة الظلم، ورضي بها؛ ومن أُشرب شيئاً دافع عنه، وحمى حدوده! الطريقة التي تُدار بها ثقافتنا اليوم هي نفسها التي أدار بها أسلافنا ثقافتهم قبل قرون، فنحن منذ القرن الأول في صراع حول امتلاك الحق كله، وحيازته بحذافيره؛ فتأريخنا الثقافي تاريخ صراع بامتياز، صراعٍ لم يكن فيه منتصر. ولم يكن ذلكم هو الصراع الوحيد في حياتنا فقد كنا نعيش صراعا محتدماً على جبهتين؛ الأولى داخلية حول أينا القابض على حقيقة الدين، والناطق الصادق باسمه؟ والثانية خارجية نُقاتل فيها الأمم رغبة في دخولها في دين لم يتفق أصحابه حوله، ولم يحلوا مشكلته بينهم بعد! هذا الصراع الثقافي، الذي كان يُدار باسم الدين، ورثناه نحن، وما زال لكل طائفة أنصارها، والمدافعون عن نهج آبائها، ولم يعد في مقدور أحد أن يُقيم محكمة يكون فيها قاضياً بين هؤلاء؛ فالتراث الديني الذي أنتجه الماضون حول شطآن النص، ما زال يحمل التربة التي خرج فيها، وتغذى من معادنها؛ فمهما حاولتَ أن تزرع فيها من جديد؛ فلن تحصد غير ما نُقِل إليك، ووضعه الأولون بين يديك. وإذا كنا سنقرأ هذا التراث حسب الصيغة المرفقة كما يقال فلن ننتج غير ما كان، وبهذا نُعيد تأريخنا في الصراع من جديد؛ لكننا لا نكفّ عن البحث وراء المتسبب به علينا، والساعي في سجننا داخله، مرة يكون الشيطان، وأخرى يكون العدو اللدود، ونسينا أن العلة الوحيدة هي ثقة كل طائفة بأسلافها ثقة مطلقة، وهي الثقة التي لا يبعث عليها ديننا؛ ففيها إحلال الإنسان محل الإله، ولا يدعونا إليها عقل ولا منطق؛ إذ لم نستطع حلها منذ قرون؛ فما بالنا نعيد القول فيها، ونكرر الحديث حولها؛ حتى أصبحت لمن يشاهد المسلمين وحالهم اليوم الشرط الأساسي لبناء الحضارة، وبزوغ شمس الأمة! من شروط أن تكون قاضياً بين خصمين أن يقبلا بك، ويطمئنا إليك! وهذا في تقاضي المذاهب الإسلامية وأهلها إليك محال؛ لأن التقاضي في هذا الصراع التأريخي الآن، والسعي في حله، معناه أنّ الأولين أضاعوا أعمارهم في غير ما حق، أو أفنوا عصورهم بين راجح ومرجوح، وهذا ما لا يستطيع المذهبي المقلد أن يتجاوزه، أو يتصوّر حصوله، وتلك العقبة هي الكبرى في طريقه؛ لأنه يسأل نفسه السؤال المحرج له دائما: أيعيش أسلافنا في دفع شرور هؤلاء المخالفين، ودحض حجتهم، ثم نأتي نحن في هذا العصر، ونطلب من قضاة مستقلين أن يحكموا بيننا وبينهم؟ أيقضي أسلافنا أزمانهم في تبيان باطلٍ، ومحاربة أهله، ثم نأتي نحن اليوم؛ لنعترف بحقهم، وحق أقوالهم، ونكون نحن وهم كفرسي رهان؟! اليوم لو فكّرت الأمة الإسلامية بمذاهبها ونحلها وآرائها أن تتحاكم إلى محكمة قضائية؛ لتحل هذا الصراع الذي طال أمده، وامتدّ زمنه، وعظمت خسائره؛ رغبةً في إطفاء هذا الصراع؛ كما يصنع الناس في شؤونهم الفردية؛ فلن تجد من أبنائها من يقوم بهذا الدور؛ فهي لم تُدربهم على ذلك، ولم تُنشئهم عليه، ولم تُكلف نفسها يوماً بتربيتهم على الحياد النسبي، وإن وجدت من أبنائها من يريد القيام بهذا، فستجتمع على رفض التحاكم إليهم، وكراهة النزول على حكمهم، ولن تجد حينئذ أمامها إلا طريقين؛ أولهما أن تتحاكم إلى أمم الأرض من غيرها، والثاني أن تبقى وهذا هو الأقرب على ما هي عليه؛ حتى يحكم الله تعالى بينها، وهو خير الحاكمين. هذه حالنا! لم يعد بعضنا يثق في بعض، وصرنا من حيث الواقع نؤمن أن كل طائفة لا تُقبل شهادتها، ولا يُصدق خبرها، ولا يستساغ فهمها، والسبب في هذا كله، أنّ آباءنا الأولين هم الذين أوصونا بذلك، وحثونا عليه؛ وليس لمثلنا أن يكون إلا وفق ما أرادوه، ورغبوا فيه؛ ولو كان فيه هلاكنا، وتضييع أعمارنا، وذهاب هيبتنا، وكسر كما يقال بيضتنا! حين أرى الحال، وما فيها، وأقرأ أحداث الماضي، وما ملئت به، يمر بين عيني قوله تعالى : (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، فأسأل نفسي: من ذا الذي سيشهد اليوم على أمم الأرض منا، وقد أسقط بعضنا شهادة بعض؟ ومن ذا الذي ستُقبل شهادته حين يطرحها اليوم؟ لقد فقدنا الوسطية حين عمتنا المذهبية، وأخذت بنا في سبيل الفرقة والشتات، ولم يعد من وظيفتنا الدينية أن نشهد على أحد، أو نشهد له، بل صار همنا أن نعدَّ العدة؛ ليشهد بعضنا على بعض أمام الحاكم الأعظم عز وجل وهذا المأزق الفكري والثقافي المتجدد له نافذة واحدة؛ لكننا لا نريد أن نُطل منها إلى النص الديني، والمتحدثين عنه. تعزو بعض المصادر إلى الإمام علي - رضي الله عنه - قوله:" اعرف الحق، تعرف أهله"، وهي مقالة حري بها أن تكتب بماء الذهب، وتعلق في الأذهان؛ فهي ترسم المنهج المتوقع من المسلم في حياته، وتوضح له الطريق، الذي يسلكه في اكتساب العلم والمعرفة، وهي سبيلنا الوحيد إن أردنا أن نُنتج أجيالاً تقوم بوظيفة الحكم بين مذاهبنا، ويتقاضى إليها المختلفون من جماعاتنا؛ فإنسان اليوم غير قادر على القيام بهذه الوظيفة، ومن الظلم له، ولمن يتخاصم إليه، أن يعين قاضياً في محكمة كهذه، أُسست للفصل بين الطوائف والجماعات، في زمن لا يُعرف فيه إلا المنتمي الذي لا يعدل بانتمائه شيئاً! هذه العبارة يقولها المسلمون كلهم جميعاً، ويتحدثون عنها، ويطيلون التفكر فيها، وهي، بهذا وأكثر منه، قمينة؛ لأنها خلاصة دعوات الأنبياء، وزبدة ما تدعو إليه الديانات؛ إنها فلسفة الأديان وحكمتها. ومع أن كثيراً من الإخوان اليوم يرددونها، وينتشون حين يذكرونها؛ إلا أنهم يغفلون عن أن صلبها ينصب على التخلي عن عالم الأشخاص، وما فيه، ويدعو إلى البعد عن مسلك الآبائية ( إنا وجدنا آباءنا)، فهذه المقالة لا تحارب شيئاً قدر ما تحارب من يقبل الفكرة، ويأنس بالنقل؛ لأن فلاناً الموثوق فيه عنده قد قاله أو نقله؛ فتلك هي السبيل التي خُدعت بها الناس، وضلت بها الأمم، ومُزقت بها أمتنا إلى اليوم. وهذه العبارة لا تنطبق على من يشك فيه الإنسان، ويرتاب منه؛ فمثل هذا مرفوض رأيه، ومهجوٌّ قوله؛ ولو جاء بالأدلة الناصعة، والبراهين الباهرة؛ فهذه المقالة هدفها أن تدفعك للتأكد ممن يملي المعارف عليك، ويرسل فهمه نحوك؛ إنها مقالة قُصِد منها أن تحترز ممن تميل إليه، وتقبل بسمعك عليه؛ فمثل هذا هو الذي يُحْذَر من قوله، ويُطلب التأمل في حديثه، وتستصحب هذه المقالة حين التعلم منه؛ لكن حالنا الثقافية اليوم بخلاف ذلك؛ ففي الثقافة والفكر ما زال صوت الشاعر القديم يعمل فينا: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ......... في النائبات على ما قال برهانا! إيماني بهذه المقالة، وعدّي إياها صورة للدين الإسلامي، يبعث فيّ أن أنظر إلى مدونات الحديث كرصيد بشري، قام جمعه على الأشخاص، وتمّ إحصاؤه بهم، وهؤلاء الأشخاص على تقديرنا لهم لا يختلفون عندي عن غيرهم من نقلة تراث الأمم والطوائف الأخرى، ومُدوني معارفها؛ فهؤلاء جميعا يعتمدون على ثقافة السند ورجاله مثلنا، فهم يروون عن أسلافهم، الذين يثقون بهم كثقتنا بأسلافنا، ويرون فيهم المثل الأعلى، الذي لا يُتصور معه أن يكونوا أخطأوا الصواب، أو ضلوا الطريق؛ فهم على شاكلتنا تماما، وإذا كنت أريد أن أَعْدَل بين هذه الطوائف حين النظر في تراثها، وما نقلته من الحديث والأثر في كتبها؛ فلا يُمكنني ذلك إلا أن أتخذ سبيلاً وسطاً، وهو السبيل الذي يلوح في هذه المقالة (اعرف الحق)، ولن يُتاح ذلك لي، وأنا مستسلم للأشخاص، الذين نُقلت عنهم معارف جماعتي، ومؤمن بتفردهم بالحق، واستحقاقهم أن يقودوا الأمة جمعاء بما تركوه، وأوقفوني عليه. (اعرف الحق) تضطرني أن أعيش تجربتي الخاصة مع النص الديني، وتدفعني أن أسلك سبيلاً لم ير غيري لزومه له؛ لأنني بنيت نفسي منذ عرفت تأريخي الإسلامي، وتبيّنت لي أسباب غياب أمتي، أن أكون قدر طاقتي قاضيا بين هذه الطوائف، التي لا تُريدني، ولا تريد أمثالي؛ لكنني مصر على ممارسة هذه الوظيفة؛ لأن قدري وقدر أمتي واحد؛ مهما حاولت أن تتجاهلني، وتغض طرفها عني. (اعرف الحق) علّمتني أن لي حقاً في الدفاع عن ديني، كما أتصوره، فخُضت في الحديث عن بعض الأحاديث، التي كره كثير من الناس حولي القول فيها، ولم أجد سبيلا ألج منه إليها إلا تصوري الفردي، المبني على فهمي، ومحاولتي العقلية؛ فذلكم هو المدخل الوحيد حتى أستطيع تمثل هذه الحكمة الذهبية (اعرف الحق، تعرف أهله)، ودون هذا التمثل سأكون بنيت تصوري على نقل الرجال؛ وهو الشيء الذي أعيب غيري عليه، وألومهم حين الالتجاء إليه. جرّبت هذه الفلسفة (الحكمة) في أحاديث المرأة، وها أنا ذا أُعامل بها نقل الرجال في قضية المهدي، وقصته، وكلما قرأت من خلالها أحاديثه، ازددت شكاً في أمره، وريبة من صدق الخبر عنه؛ فها هي كتب الحديث (المستدرك وصحيح ابن حبان وسنن أبي داود) تتفق على أن المهدي "يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً"، وهي عبارة قرأها كثير منا، أو مرّت كثيراً على أذنيه؛ لكننا لم نقف أمامها، ونسأل عن معناها. فما المراد بالأرض؟ أهي أرض الله - تعالى - الواسعة من اليابان حتى الولاياتالمتحدةالأمريكية اليوم؛ خاصة أن المسلمين اليوم يعيشون في كل شبر من هذه الأرض، يقرأون أحاديث المهدي، ويسمعون هذه العبارة؛ مما يجعلهم ينتظرون هذا العدل الذي سيعم العالم كله، ويهنأ به سكانه؟! ثم كيف يستطيع المهدي أن يملأ هذه الأرض عدلاً، وأقصى مدةٍ لحكمه، تذكرها الأحاديث تسع سنين، بل كيف يملك المهدي هذه المناطق الشاسعة في غضون هذه المدة الوجيزة، ثم يملؤها بالعدل بعد أن عمها الظلم، وتوطّد فيه حكمه؟! الأقرب عندي أن المهدي، إن خرج، سيخوض حروباً مديدة، قبل أن يملك شبراً واحداً من الأرض، وسيجد العالم كله يتآمر عليه كما تآمرت القبائل في الأحزاب على نبينا - عليه الصلاة والسلام -؛ فالعالم كله، تبعاً لأحاديث المهدي، قد أُشرب ثقافة الظلم، ورضي بها؛ ومن أُشرب شيئاً دافع عنه، وحمى حدوده! ثم ما معنى العدل هنا؟ وكيف يحقق المهدي العدل المطلق بين الناس؟ هذه المقالة عن عدل المهدي هي الوجه الآخر من النص الذي ذكرته لكم من أحاديثه سلفاً (تأمن البهائم والسباع)، ومثل هذا العدل الأسطوري يعني أن فترة المهدي ستشهد إغلاقا للمحاكم، وتسريحاً للقضاة، فالبشر في عصره جرى لهم انقلاب جذري، وتغير نوعي كبير، لم تحظ بها فترة نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي قال كما في البخاري ومسلم :" إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض؛ فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار"، ولم تحظ به فترة أصحابه، الذين ما زلنا ننظر في حروبهم وصراعاتهم، وكثرة اختلافاتهم، مع أننا نعدهم العهد الزاهر في الإسلام، ونروي في الحديث الآخر أن عصور الناس بعدهم شر من عصرهم "لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه" رواه البخاري ومسلم . إن المحزن حقاً أن تكون فترة المهدي الذهبية وجيزة جداً، فهي من سبع سنين إلى تسع، وبعدها سنعود من جديد يأكل بعضنا بعضاً، ويظلم فريق منا الآخر، وحينها سنضطر آسفين أن نعيد افتتاح المحاكم، وتعيين القضاة من جديد. ولعل من حصافة المخططين اليوم أن يفكروا جدياً في حل المشكلات التي ستعقب وفاة المهدي؛ فيضعوا - كما تضع الدول المتقدمة اليوم - خطة إنقاذ؛ لكنها خطة موسومة بخطة الإنقاذ بعد وفاة الحاكم المهدي! فالذي يُبنى بالمعجزات والخوارق يذهب معها، ويتوارى بذهاب أصحابها!